Tuesday, June 9, 2009

محمود عباس مسعود: قراءة في ألفية شبلي الأطرش

يمكنكم أيضاً زيارة موقع السويداء يوغا وقراءة المواضيع التالية بالنقرعلى العناوين أدناه:
الأرواح الراقية والمحبة * مع الحلاج في أشواقه * ابن مسكويه يتحدث عن الخوف من الموت * طاغور يتحدث عن الروح * الروح عند فلاسفة الإسلام * البحث عن معنى الحياة * عالم جديد * طاقة التركيز * الروح عند الأقدمين * روح الشرق * التحدي الأساسي * مفتاح سحري * أنوار مباركة * فلسفة الحياة * أنفاس الصباح * هذا العالم * لا تسمح للغضب بالسيطرة عليك * فلذات * مناجاة المدركات العليا * تلك النفس الشريفة * هذه المعرفة الروحية * مطلب واحد يستحق العناء * قانون ونظام وتسلسل منطقي * رسالة الإنسان الراقي * الغذاء المغناطيسي أو الفكري * عربي في ضيافة طاغور - الحلقتان * نثرات ضياء * قراءة في ألفية شبلي الأطرش * الفكر سجن وحرية * ثم همس الروح خلطة سحرية مشاهد من الهند لماذا رفض أرفع المناصب الموت بداية أم نهاية الكشف عن الكنوز بوذا والعاشقة في محراب معرفة الذات من الهوة إلى الذروة عندما أنذر الصمت همس الأعماق


...تلك الألفية الرائعة ذات النفحة الجبلية المحببة للنفس والعبارات الحكمية المستملحة بالرغم من تقادم العهد ببعض مفرداتها.

ومن يقرأ القصيدة يدرك أن ناظمها رحمه الله كان واسع الإطلاع وذا تجربة ذاتية عميقة. فهو قد خبر الحياة بحلوها ومرها وأراد أن ينقل تجربته إلى الأجيال. وقد نجح في ذلك لأننا ما زلنا نقرؤها ونستفيد منها حتى بعد مرور أكثر من قرن على نظمها.

ونستدل من كلمات الشاعر أنه كان طيب القلب، محباً للناس، كريماً صادق القول، وشهماً أبياً، وباختصار رجلاً بكل معنى الكلمة.

فهو يهيب بالسامع والقارئ بأن لا يبتعد عن عمل الخير لحظة واحدة بل يواظب عليه طوال عمره.

وهو يحذر الناس من البخل في زمن كانت الضيافة فيه جزءاً لا يتجزأ من النسيج الإجتماعي نظراً لاعتماد الناس على بعضهم في المؤازرة وتلبية الحاجيات، حيث لا مطاعم ولا فنادق ولا وسائل نقل سريعة في تلك الأيام. ولترسيخ هذه الخلة الكريمة في النفس يبين أن البخل عار وأن لا حاجة أن تعطى الذريعة للآخرين كي يصفوا ويصموا صاحبها بالخسة والوضاعة.

ثم ينتقل إلى جانب عملي آخر وهو عدم إئتمان الخائن على المال لأنه لن يراعي حرمة الأمانة بل سيمد يده إلى الوديعة ويتصرف بحسب ما يوحي له ضميره الزائغ. ثم يحذر صاحب المال من أن ذلك الخائن لا عهد له ولا ذمة وهو مع ذلك مستعد لأن يقسم جهد إيمانه بأنه وفيّ، لكن قسَمَه لا يعتد به لأن الطبع أغلب.

كما ينصحنا بمراقبة أقوالنا صيانة لنا ولها من الزلل، ويشدد على الدقة في القول دون زيادة أو نقصان، مما يوحي بأن الرجل كان على درجة عالية من ضبط النفس، يزن أقواله قبل التلفظ بها لأنه كان يدرك ما للكلمة من تأثير بالغ على الفرد والمجتمع.

ولا يكتفي بذلك بل يهاجم الكذب والكذابين عندما يقول (درب الكذب عار على الفتى) ويدعم قوله هذا بعبارة (من خاس حكيه بين الرجال يخيس) بما معناه أن صاحب الكلام غير الصحيح أو الدقيق يتقلص ظله وتنحط مكانته في عيون الآخرين.

بعد ذلك ينتقل إلى نصيحة من أروع ما ورد في هذه القصيدة الجميلة إذ يقول:

(الجيم جارك لا تجافيه وتجحده...... لا يجحد الجيران غير ابليس)

وهي عبارة عميقة الدلالة صاغها بكيفية مؤثرة تحاكي الضمير ببساطة وجدية. وكثيراً ما كنت أسمع شقيقي المرحوم حمد، الذي كان قد حفظ القصيدة، يردد هذا البيت بكل إيمان بمحتواه وإعجاب بقائله.

هذا يؤكد لنا أن شاعرنا المحبوب كان محباً لجاره، أميناً معه ومؤتمناً عليه لأن الناس كلهم جيران ولا سبيل للتعامل مع بعضهم سوى بالإلفة والتحاب، بعيداً عن الدروب الشيطانية التي تتمثل في العداوة والجفاء. ويدعم قوله بأن النبي عليه السلام قد أوصى بالجار خيراً عندما قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره."

وهذا يذكرنا أيضاً بقول الشاعر

أكرمْ الجارَ وراع ِ حقـَهُ........... إن عرفانَ الفتى الحقِّ كرمْ

ثم يعود شاعرنا شبلي بك ليؤكد على أهمية استقبال الضيف بالترحاب والابتسام مشبهاً الكرماء "الأجواد" بالروض الذي يزهو على الندى. وهذه تورية لطيفة تجمع بين الندى أي الطل والندى أي الجود. فكما أن الطلّ يحيي الروض بقطراته المنعشة هكذا الجود يحيي النفوس ويزيدها كرماً وكرامة.

ولا يتحرج من وصف البخلاء بالأنذال وتشبيههم بالأرض الجرداء الجدباء التي لا خضرة فيها ولا نضرة ولا ماء. وهذه الصور الذهنية قوية للغاية وفعّالة بحيث تحفز الشخص على مباينة الشح ومبايعة السخاء.

وبين هذا وذاك يتودد شاعرنا للسامع والقارئ بأن يمتلك الخصال الحميدة حتى يذكره الناس بالخير وأن يحافظ على شرفه وكرامته فلا يسمح لأي شيء أن يدنس تلك المقدسات التي يجب صيانتها من العطب وعدم الترخيص أو التفريط بها.

كما يحثنا على مداراة الناس كي نأمن شرهم على الأقل وأن نصطفي أحسنهم أصدقاءً وجلساءً. ويميزّ بينهم تمييزاً حصيفاً وظريفاً.. فهذا رئبال وذاك حمار وآخر تيس.. فمن الحكمة التمييز بين نوعيات البشر ومعاشرة الطيبين منهم.

بعد هذا يرغب إلينا في التواضع أمام الله وحده لا سواه. فهو سبحانه الذي يستحق هذا التواضع التام لأننا مسؤولون أمامه يوم الحساب وهو وحده القادر على فحص أعمالنا ومنحنا الرضاء والمغفرة.

ثم ينبهنا إلى أن هوى النفس يشبه النار الحارقة التي تأتي على الأخضر واليابس، ولذلك ينبغي مراقبتها ولجمها عن الأهواء الجامحة التي لا تحمد عقباها.

ويتحسر شاعرنا على أيام الصبا والشباب ويأتي ذلك "التوجّد" كاستراحة قصيرة قبل إتمام تلك الموعظة الرائعة المليئة بدرر الحِكم وغرر الأقوال المأثورة.

ويعود ليذكرنا بأهمية التزود بأعمال الخير وتنزيه النفس عن المراءاة والدجل والتدليس.

كما ينصح بأخذ الحيطة والحذر مع العدو الذي لا ينفك يخطط لإيقاع الأذى بغيره.

ولا ينسى شاعرنا بأن يمتدح (أهل الشور) ذوي المشورة الحسنة الذين بفضل آرائهم السديدة تعمر البلاد وتزدهر، والإبتعاد عن (التخبيص) أي سوء الإدارة الذي من شأنه أن يخرّب البلدان العامرة ويجلب لها الدمار والأضرار.

ويحذر من كثرة الآراء غير الصائبة لأنه لا خير يرجى منها وقد تؤدي إلى انفلات الأمور ووقع المحذور.

ولا يغفل شاعرنا التطرق إلى بعض النواحي الصحية، كمداواة الجسم بقلة الأكل وتطبيب النفس بالدراسة والحفظ..

أكتفي بهذا القدر من القراءة في هذه القصيدة الرائعة لشاعرنا الجبلي المحبوب شبلي الأطرش طيب الله ثراه وأكرم مثواه.


والسلام عليكم

محمود عباس مسعود
الولايات المتحدة

أدناه Older Posts لقراءة موضوعات أخرى رجاء نقر









No comments:

Post a Comment