Friday, June 5, 2009

هذه المعرفة الروحية

يمكنكم أيضاً زيارة موقع السويداء يوغا وقراءة المواضيع التالية بالنقرعلى العناوين أدناه:
الأرواح الراقية والمحبة * مع الحلاج في أشواقه * ابن مسكويه يتحدث عن الخوف من الموت * طاغور يتحدث عن الروح * الروح عند فلاسفة الإسلام * البحث عن معنى الحياة * عالم جديد * طاقة التركيز * الروح عند الأقدمين * روح الشرق * التحدي الأساسي * مفتاح سحري * أنوار مباركة * فلسفة الحياة * أنفاس الصباح * هذا العالم * لا تسمح للغضب بالسيطرة عليك * فلذات * مناجاة المدركات العليا * تلك النفس الشريفة * هذه المعرفة الروحية * مطلب واحد يستحق العناء * قانون ونظام وتسلسل منطقي * رسالة الإنسان الراقي * الغذاء المغناطيسي أو الفكري * عربي في ضيافة طاغور - الحلقتان * نثرات ضياء * قراءة في ألفية شبلي الأطرش * الفكر سجن وحرية * ثم همس الروح خلطة سحرية مشاهد من الهند لماذا رفض أرفع المناصب الموت بداية أم نهاية الكشف عن الكنوز بوذا والعاشقة في محراب معرفة الذات من الهوة إلى الذروة عندما أنذر الصمت همس الأعماق


هذه المعرفة الروحية لو تقبّلها الناس بما تستحقه من اعتبار لكان لها شأنها في تصحيح قيم اجتماعية كثيرة تنبعث كلها من الأثرة لا من الإيثار، وتتضمن في جوهرها إهداراً لدور القيم الروحية ورسالتها العظمى في تحقيق رقي الروح والأخذ بيدها في طريقها الوعر المحفوف بالعقبات والصعاب، وتجنيبها الكثير من المحن والآلام عن طريق يقظة الضمير. فالضمير هو الصلة ... التي تربطنا بالنواميس الراقية للروح التي تخالف في الكثير منها قيمنا غير القويمة.
فضمير الإنسان هو أسمى ما يرفع قدْره و(يضمن) له استقلاله عن وعي المجتمع الصاخب في فطرته وبدائيته، والذي يعمل باندفاعات غريزة القطيع أكثر مما يعمل بإلهام العقل المتطور النامي. ولذا قال غاندي بحق "أما في مسائل الضمير فليس هناك مكان لقانون الأغلبية".
ونقاء الروح هو الصلة التي تصلنا بعالم الضمير، كما هو في نفس الوقت الحاجز الذي يفصلنا عن أوهام الجماهير عندما يعوزها ترابط التفكير... ومن ثم فمن يجاري روح القطيع مغـْفِلاً صوت الضمير يسيء إلى نفسه كما يسيء إلى القطيع. أما من يقف في طريق اندفاعاته وحماقاته فهو الراعي الأمين الشجاع الذي تفتقده الجماعات في المحن والشدائد، وقلما تجده بسبب طغيان روح الجماعة على روح الفرد، وطغيان روح الإنقياد الأعمى على روح الإرشاد المبصر.
وطغيان روح الجماعة على إرادة الفرد صورة في الطغيان أشد ضرراً – بمراحل كثيرة – من طغيان إرادة الفرد على روح الجماعة، لأنها صورة خلابة في مظهرها قد يستغلها الباحثون عن السلطة بوصفة "شعبية"، ويجد فيها الوصوليون وسيلة رخيصة ينفذون منها إلى تحقيق أطماعهم في السيطرة على حساب حقائق الحياة.
ومن جهة أخرى فإن طغيان روح الفرد على الجماعة كثيراً ما يجد رد فعله في روح المجتمع ويقظته المحتومة لدفع العدوان الحاصل عليه إن عاجلاً أو آجلاً. أما طغيان روح الجماعة على الفرد فهو بمثابة الداء الدفين – لأنه في مظهره الخارجي عافية وقوة – فلا يثير انتباه أحد إلى حقيقته إلا بعد أن يكون قد فات أوان الإنقاذ من زمن بعيد...
ولذلك لم يقف في وجه طغيان روح الجماعة إلا قلة من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ ميزتهم الطبيعة بأجمل ما يميز به أي إنسان، وهو استقلال الضمير والتفكير، وشجاعة اللسان والشعور، وهذا وذاك لا يوجدان إلا مع إنكار الذات ونضج الأخلاق والملكات. فالإنسانية مدينة في ارتقائها إلى جهود أفراد لا إلى جهود جماعات، لأن العقل المبتدع، والخلق النامي، والإحساس المرهف، والضمير اليقظ، من خصائص روح الفرد لا الجماعة، ومن صفات النبي، أو العبقري، أو الفيلسوف، أو الحكيم، أو الشاعر الملهم، أو الفنان المبدع، لا من صفات الجماهير ولو في المجالس أو الهيئات...
فإذا ما ناقشت فرداً عادياً في أي موضوع عادي قد تسمع منه فوراً كلمة الحق صريحة واضحة. أما إذا عرضت نفس الموضوع على عدد من الأشخاص مجتمعين في مجلس أو في لجنة، ظهرت على الفور – صريحة واضحة – عناصر التواطؤ على البهتان، وكأنما بين "روح الجماعة" و"روح الحقيقة" عداء مبين هيهات أن يهدأ أو يستكين.. فكم من أمور يفعلها الإنسان متحمساً وهو في جماعة سرعان ما يخجل منها ضميره وهو في خلوة، إذا كان على أي درجة من الإحساس بمعنى الحقيقة أو العدالة.
ومن ثم كانت أخطر رسالة للروح في اختباراتها التي تنتزعها من اتصالاتها بالمجتمع هي أن تعرف كيف تعثر على ذاتها وسط صخب القطيع، وأن تشق طريقها – في وداعة وفي هدوء – إلى أرض السلام وسط حماقاته واندفاعاته، غير عابئة بخاطئ أحكامه وموازينه. فلبصيرة الروح قيمة أرقى من قيم المجتمع، وموازين أصدق من موازينه، وما أشد قدرة هذه على تضليل بصيرة الفرد وبالتالي قدَرَه ومصيره.
فلا ينبغي أن يفوتنا أن الإنسان ابن بيئته كما هو ابن فطرته... والطفل التعيس الذي تخطفه الذئاب وتحتضنه وتربيه يحصل مع الوقت على صفات الذئاب وينسى أصله الإنساني... وقد عثروا فعلاً في كهوف بعض الغابات في المقاطعات الشمالية الغربية من بلاد الهند على بعض هؤلاء الأطفال الذين نسوا مع الوقت أصلهم الإنساني وتحولوا إلى كائنات كأنها الذئاب في الكثير من حركاتها وصفاتها. وفقدوا القدرة على التفكير، وعلى النطق، وعلى ارتداء الملابس، وعلى مواجهة الضوء... وأصبحوا يعتمدون على حاسة الشم في التعرف على الأشياء، وعلى تكشير الأنياب في التعبير عن الغضب... واستطالت أذرعهم حتى كادت أن تبلغ طول أقدامهم، وإذا مشى الواحد منهم مشياً متعثراً يقف بغتة، ولا ينفك يحرك رأسه حركات سريعة ذات اليمين وذات اليسار، ويحدّق بنظره كمن يترقب هجوماً ويريد أن يتقيه...
فهل آن للإنسان... أن يتخلى عن مخالبه وأنيابه... ويتبوأ مكانه السامي المعد له من قديم كقلب رحيم وعقل حكيم، يعرف كيف يرحم نفسه من نير الإذعان؟
وهل آن للإنسان أن يتذكر أخيراً أنه إذا كان حقاً يؤمن بالله، فإن الله هو الحرية، وقد خلقنا أحراراً، فلا يصح أن نستعبد الآخرين لأهوائنا، ولا أن نستعبد أنفسنا لأهواء الآخرين ولو كانوا ذئاباً؟
انظر إلى كل صور البغي والطغيان التي تقع من الإنسان على الإنسان. هل تتصور حقيقة أنها وقعت بإرادة الله؟ سيقول البعض نعم قطعاً ما دام الله قد سمح بوقوعها. أما أنا فأقول لكم أنها وقعت... بإرادة البغاة الطغاة... وعن هذا البغي سيقدمون للحياة حساباً عسيراً. فلا تظلموا الآخرين...
ولا توجد قوة بمقدورها أن توجه ضمائرنا التوجيه الصالح إلا نفس هذه الضمائر عندما تعرف كيف تتخلى عن منطق المخالب والأنياب كيما تتسلح بمنطق المحبة والتعاطف. وعندما تتخلى قبل كل شيء آخر عن نير الإذعان لضمير الجماعة لتنعم بنور الحرية الذي يشع من ضمير الإنسان إذا ما عرف كيف يكون إنساناً بوجدانه مثلما هو إنسان بجثمانه.
عن استقلال الضمير
وليس في استقلال ضمير الفرد عن ضمير الجماعة أي معنى من معاني شراسة الإنطواء، ولا شهوة التسلط التي يفهمها الجهول خطأ على أنها من صور التضحية النبيلة... ولن يدرك أبداً أنها من وحي النفس الأمّارة بالسوء. إذ أن هذا الإستقلال يقوم على الاتجاه أولا إلى محبة الإنسان للإنسان. هذه المحبة التي معناها إرادة الخدمة، والتفاني الذي ينكر تماماً كل الإنطواء، ويتعارض مع كل تسلط، وهما توأمان من أم اسمها الكراهية وأب اسمه الغرور. وحيثما قلبت النظر في قيم المجتمع وجدت هذه الحقيقة ناصعة واضحة. فلنقف برهة إذاً مع بعض هذه القيم الخاطئة لنرى العجب من قدرتها على التخريب، ومن طغيانها الرهيب على بصائر الجماهير وعقولها.
فمنها قيم اجتماعية ما زالت تعطي لمطالب الجسد الأسبقية على مطالب الروح، وللغريزة التفوق على العاطفة، وللجموح السيادة على الإعتدال.
ومنها قيم ما زالت تعتبر الوداعة عجزاً والتواضع ضعفاً. فهي تدعو إلى تمجيد الكبرياء تحت أوصاف خلابة شتى طالما استهوت مشاعر الدهماء، وتحت عبارات من المثالية الزائفة طالما خدعت السذج والبسطاء.
ومنها قيم تقدس الغلو والإندفاع، وتكره الإعتدال والتواضع مهما كان الغلو هدّاماً، وكان الإعتدال حزاماً للنجاة، وصخرة للأمان في خضم الحياة.
ومنها قيم تعطي للمظهر التفوق على الجوهر، حتى كادت الفضيلة أن تصبح مجرد إتقان للمظهر، وكاد بريق المظهر أن يصبح هو جوهر الفضيلة وأسمى ما يستحق عناء البحث عنه والتعلق به. وصارت القدرة على الخديعة عند الكثيرين هي كل مجدهم، وكأنها الباب الضيق الموصل إلى أمجاد السماء لا الطريق الواسع والباب الرحب الموصول إلى هاوية الضياع! إن حكم الناس هو كل شيء في الوجود، أما حكم الضمير فلا وزن له ولا اعتبار إلا عندما يتخذ وسيلة للتغرير وحب الظهور!...
ومنها قيم تعتبر أن السلطة غاية سامية ينبغي أن يتهافت عليها الإنسان ولو على حساب كل فضيلة، مع أن تعاليم الضمير تقول أن الجري وراء السلطة شر من سوء استعمالها، وأنها هدف الوصوليين الضعاف الذين إذا ما انتشوا بخمرة السلطة فقدوا وعيهم كما يفقد الوعي كل سكير عربيد! أما هدف الأحرار الأقوياء فهو مسؤولية الكلمة الحرة، والفكرة الصحيحة في شرف السعي إليها، وفي شجاعة إعلانها والعمل بما تقتضيه من تضحيات قاسية أليمة.
ومنها قيم تقوم على تكريم الغنى واحتقار الفاقة، مع أن الفاقة الوحيدة التي تعرفها هي فاقة المواهب العقلية والخلقية، وهي كثيراً ما أدت إلى فاقة المادة. أما فاقة المادة فكثيراً ما سببت الألم الذي يفضي إلى غنى الروح إذا ما عرفت الروح كيف تتعظ من الألم...
ومنها قيم تحسن التحايل على الأسماء والمسميات، وعلى اصطناع الأوصاف الزائفة البراقة: فالنفاق إسمه أدب وكياسة، والخداع إسمه مرونة وسياسة، والوصولية اسمها لباقة، والقسوة الملتوية اسمها رحمة ووداعة، والحماقة الجلية اسمها بطولة وبراعة، والغرور المتعالي اسمه قوة وصرامة، والمكابرة في الحق اسمها عزم وصلابة!!
آه لو عرف ضمير الإنسان كيف يسمي الأشياء بصحيح أسمائها!.. وآه لو أدرك العقل كيف تجيء عوامل انهيار الروح من داخلها لا من خارجها حاملة أسماء زائفة للمجد والكرامة لحطمها قبل أن تحطمه. ولطاردها قبل أن تطرده من سفر الحياة الكريمة التي ينبغي أن يحياها وأن تحيا فيه. ولأبصر فوراً أنه بسبب هذه الأوصاف الخلابة كثيراً ما يرى الرذيلة فضيلة، والجهل عرفاناً، والمغالطة برهاناً، والقيود فلسفة، والأغلال اعتقاداً، والحماقة حكمة، والإنحلال انطلاقاً، والتوقف استباقاً!
وما لم توصف الأشياء بصحيح أوصافها في الوعي وفي الوجدان فإن تغيير حال الإنسان من المحال. لأن الترقي الحق ينبغي أن يبدأ من داخل النفس، عندما تستيقظ النفس على أقيسة للمجد وللكرامة غير تلك التي عودتها عليها أمثال تلك الصيغ البراقة التي تغذي الكبرياء، وتضلل الطموح، وتقوض أحسن مبادئ الأخلاق عند الشيوخ والشباب...
ومنها قيم تقدس الإعتداد بالرأي وشهوة التسلط على حريات الآخرين وآرائهم، على حسبان أن عظمة الرأي في الإعتداد به، وأن دليل عصمته هو في محاولة فرضه قضية مقطوعاً بصحتها في العالمين!... وذلك مع أن أصح الآراء وأكثرها اتصالاً بحقائق الحياة هو ذلك الذي يفرض نفسه بنفسه على فطرة الإنسان في حرية وتواضع، وفي غير ما حاجة إلى صليل السيوف أو قصف المدافع...
إذ في الحرية الحقة يدرك الضمير معنى المسؤولية، وعن طريق الإحساس بها تصل النفس إلى معرفة حقائق الحياة الجلية. أما العبودية المعسولة – ومثلها الحرية المغلولة – فتكتسح في طريقها كل حقيقة أولية، بل كل بصيرة إنسانية قادرة على التعقل، وعلى الوصول إلى حقائق الحياة صغـُر شأنها أو كبُر.
فبدون حرية تفقد المعاني الجليلة كل جلالها، يستوي في ذلك العلم مع الإعتقاد، والعدالة مع الفلسفة، والأدب مع الفن، بل المحبة مع الصداقة، والوفاء مع الإخاء لأن العبودية تلغي في النفس الإحساس بالذات وبالندية، وهو شرط لكل عاطفة نقية... وهكذا تفقد الحياة بسبب التسلط وحده مغزاها وقيمتها، وتستسلم النفس إلى عبودية النزوات الشهوات، وهي أخطر صور العبودية وأشدها تدميراً للذات وللملكات...
ولا يمكن أن يأتلف التسلط بالمحبة، فإن بينهما تنافراً طبيعياً كالتنافر بين الماء والنار. وهو حتى إن لم يبدأ بالأحقاد فهو منتهٍ إليها حتماً، عندما يرتطم بحقائق الحياة، حتى ولو كان التسلط لتحقيق خدمة مرجوة لأن الخدمات تؤدى بالمحبة لا بالتسلط.
فمن واجب الإنسان الحكيم إذاً أن ينزع للخدمة في محبة وحنان، لا في تسلط وطغيان حتى ولو شعر أنه على صواب مطلق، فإن التسلط بذاته محض خطأ، والإنسان الذي يتصور أنه على صواب مطلق إنما هو واقع تحت نير الغرور وعبد ذليل لعبادته لنفسه التي تعمي بصيرته وتحجب عنه حقائق الأمور، سواء عندما يسكت على مضض، أم عندما يزبد ويثور، أم عندما تصرعه هذه الشهوة التي لا ترويها إلا المآسي والدماء ألا وهي شهوة التسلط على الآخرين.
وهذه الشهوة المدمرة لا تصل إلى تقويض سعادة الآخرين إلا عن طريق تقويض سعادة صاحبها أولاً. فهي تعذب صاحبها تعذيباً لا يتوقف، وكلما اشتد به التعذيب كلما تصور أن المَخرج منه يكون عن طريق محاولة فرض رغباته على الآخرين قضايا مقطوعاً بصحتها في العالمين، ينبغي أن يخرّوا لها صاغرين. وهكذا يصبح الأمر حلقة مفرغة من الشقاء للفرد في الجماعة وللجماعة في الفرد.
وكذلك لا يمكن أن يأتلف التسلط بنضج الوعي أو الأخلاق.. .وهكذا تقاسي الحكمة من الحماقة، والجهالة من المعرفة، والوداعة من الغرور. أما المفكر الناضج فتراه يراجع نفسه متروياً مرات ومرات قبل أن ينطق بأية كلمة قد تكون هي الصدق بعينه، ولكنه يقولها مع ذلك في تردد واستحياء خشية خطأ غير مقصود، أو سوء تقدير لأمرٍ من الأمور...
ومن القيم الإجتماعية الخاطئة أيضاً قيم ما زالت تبرر دناءة الوسيلة بشرف الغاية، مع أن التعاليم الروحية تقول أن شرف الغاية لا يُعرف إلا من شرف الوسيلة. فالغاية لا تبرر الوسيلة، لأن السبب الأعوج نتيجته المرسومة في الطبيعة خسارة ودمار، وغايته المحتومة سقوط وانهيار، بحسب ارتباط النتائج المحتومة بمقدماتها.
ومن ثم فإنه من المحقق أنه لا يوجد معيار آخر لتقدير مدى شرف الغاية إلا معيار شرف الوسيلة، فإذا أسقطنا هذا المعيار فلا نجد أمامنا سوى بحر من الظلمات تتضارب فيه كل أمواج الشر والرذيلة تحت أوصاف خلابة شتى من الخير المطلق والفضيلة الكاملة!
ومنها قيم من التكالب على المادة جعلت الحياة اليومية سطحية بغير عمق، فكثرت فيها عوامل الخطأ والعثار.
فالكاتب الأريب يعتقد أن البراعة الحقة هي في قدرة التعبير ومداهنة الجماهير عن طريق الدفاع عن أخطائها وآثامها، أما حقائق الأمور فليس من غايته البحث عنها، ولا من وسائله المشروعة!
والقانوني الضليع يقدم الرأي والفتيا إرضاءً لرؤسائه أو لمقتضيات ظروفه وأهوائه، لا إيماناً منه بأن هناك حقيقة واحدة موضوعية ينبغي التقيد بها والوصول إليها، حتى لقد أصبح الكثير من حقائق الحياة الناصعة أقرب إلى رجل الشارع منه إلى عمالقة الفتيا والشرائع.
والطبيب المعروف يداوي سعياً وراء المال والشهرة أكثر مما يعالج بعاطفة الإنسان الذي يشاطر مريضه مخاوفه وآلامه، أو بحكمة الحكيم الذي ينبغي أن يتحلى بأنبل مشاعر الإنسان قبل محاولة تشخيص الداء، وذلك مع أن الطب والحكمة معتبران – منذ القدم – رسالة واحدة لا رسالتين! (طبعاً هذا القول لا يمكن تعميمه على كل الأطباء، إذ هناك أطباء ينتمون إلى القيم الإنسانية العليا مثلما تتشرف تلك القيم بالإنتساب إليهم).
وهكذا مما يلمسه الإنسان بسهولة في غمار حياة سطحية لا عمق فيها ولا رونق حقيقي لها، ولا أمل في عمق ولا في رونق لأنه يعوزها الإرتباط الصارم بالقيم الروحية الصحيحة، رغم ما يقتضيه هذا الإرتباط من تبعات جسام ومن تجرد تام. كما يعوزها الإعتماد على الضمير اليقظ في توجيه العقل إلى استلهام خفايا الكون بعض إرشاداته، التي بدونها لا تعد حياتنا شيئاً مذكوراً في صحيفته، وفي فك أسراره التي لن تفك إلا لمن يتجه إليها نقي العقل صافي السرية، مؤمناً بأن الحياة للروح لا للجسد، وللخدمة لا للطعام، وللحكمة لا للحماقة، ولتمجيد العقل الكوني العام لا لعبادة الأصنام!
وما أكثر الأصنام التي نعبدها في تطلعاتنا وتضرعاتنا – بحسبانها آلهة ونحن عن أنفسنا لاهون، غير مدركين أننا نعبد أصناماً شوهاء من القيم الخاطئة لا مجد فيها ولا كرامه لها. ومع ذلك فننتظر من إله الكون أن يكون – في عدالة موازينه – ممالئاً لنا محابياً! أي أننا نتوقع منه أن يبادلنا التواء بالتواء وخديعة بخديعة، ويأخذنا العجب عندما نفتقده في حياتنا فلا نجده!
فلنكن إذاً مع الله إذا كنا نريد منه أن يكون معنا، ولن يكون معنا أبداً عن طريق الصخب والعويل، ولا عن طريق التعالي والإنطواء، ولا عن طريق الغلو والعدوان ولا الأشكال والحركات، بل فحسب عن طريق العمل الصالح إذا ما استقامت في سرائرنا موازين التقوى والصلاح.
وما تفعله عبادة القيم الشوهاء تفعل مثله الغيرة، وانعدام البصيرة، والخوف، والتخلي عن المسؤولية، وسطحية التفكير، وانحراف التقدير، وغير ذلك من عوامل العثار عند الصغار والكبار. فإذا النتيجة المحتومة تدهور رهيب.. خطيرة آثاره، ثم صراخ وعويل وتساؤل ذليل لمَ التردي والإخفاق؟! وكل يلقي المسؤولية على غيره ويتصور نفسه باذخ العقل مكتمل الفضائل! عبداً لله.. صادق القصد قوي البنيان!
ولنعرف أيضاً أن الشعوب في مسيرها للأمام بحاجة إلى القيم الروحية الصحيحة قدر احتياجها إلى الماء والهواء، لأنها هي المنائر التي تضيء لسفينة الحياة ظلام طريقها الطويل المخيف عبر بحار الأبدية الشاسعة، فتوجه مصائرها ومقدراتها. فإذا ما تعلق الشعب بقيم خلقية غير قويمة فقد جنى على قدره ومصيره، ومسخ أهدافه وأضاع معالم طريقه، فإذا سفينة الحياة تخبط خبط عشواء، صبحاً ومساء، بغير أمل ولا رجاء.
ولنعرف كذلك أن قيم المجتمع الخاطئة بمثابة ثقوب خفية في سفينة الحياة هذه، ينفذ منها الضمير الملتوي إلى تحقيق أهدافه غير الأمينة، ويتذرع بها لحماية نفسه من التأنيب المحتوم، ويصم بها – ولو إلى حين – أذنيه عن سماع الأنين المكتوم، عندما تجنح السفينة بمن فيها في لجة الأهواء فتكتسحها أعاصير النزوات والأخطاء...
ومن هنا جاء الألم بل الدمار عقاباً محتوماً للنزوات والخطاء، يستوي في ركاب السفينة من أخطأ مع من تسبب في الخطأ، ومن أحدث الثغرات الخفية عامداً مع من تجاهلها وكابر فيها. فالتضامن الإجتماعي قانون صارم من قوانين الحياة أوجدته حكمة سامية تريد للجميع الوصول إلى ميناء السلام في مركب واحد كأسرة واحدة تجمع أفرادها – في السراء والضراء – عروة وثقى لا تريد لهم انفصالاُ، ولا يريدون لها انفصاماً.
فعن طريق المعرفة الروحية الصحيحة يمكن أن يقتنع الإنسان – بأدلة منطقية تجريبية مدروسة – أن الخلق الفاضل هو في يقظة الضمير ونقائه، لأن ناموس الخير والشر منقوش في هذا الضمير، ولأن حرية الإختيار هي التي توجهه حينما شاء. وهو أيضا في الإحساس بقوة التضامن بين البشر جميعاً. وهو في الخدمة العاقلة تقدَّم للجميع على حد سواء. وهو في المحبة تـُبذل في سخاء بغير انتظار جزاء. وهو في شجاعة الكلمة تصدر في قوة ومضاء وفي غير ما ضعف ولا التواء.
الضمير بين الموضوع والشكل
أما أولئك الذين يعلقون الأهمية الكبرى على الصيغ والعبارات – والأشكال والحركات – ويتصورون فيها خلاص نفوسهم مهدرين يقظة الضمير فهم يغالطون أنفسهم أياً كان موضعهم في دنيا الله الواسعة، لأن ناموس الحياة لا يقبل مغالطة من أحد ولا رياء. ويحمّلون أعناقهم أحمالاً ثقالاً تعوق تطورهم وارتقاءهم، بدلا من التزود من الحياة بقيمها الصحيحة التي تدفع هذا التطور قدماً في تحقيق حياة صالحة روحياً وخلقياً.
أو لنقل ..."ليكن في قرارة قلوبنا أن الروح ليست إسماً لشيء ولكنها اسم لحياة، وأن خلاص الروح ليس بالسلعة أو المنحة التي تشترى أو تستعطى، ولكنه تطور نبلغه ونترقى إليه. وأن تخليص روح الإنسان ليس بالعمل الموقوت الذي يتم في ساعته، ولكنه سعي طويل يستغرق مدى العمر كله، وليس هو إنقاذاً لكيان مبهم لا تعريف له، ولكنه خلق لنموذج من الشخصية من طريق الإعتراف بالقيم البينة التي تدور عليها تجارب كل يوم. إنه نضج باطني ويقظة لمعاني الحق والجمال وكرامة الحياة..."
"... يدخل الناس الجنة لا لأنهم كبتوا عواطفهم ومشاعرهم وتغلبوا عليها، ولا لأنه لم تكن لديهم عواطف أو مشاعر، وإنما لأنهم طوروا فهمهم وأبلغوه أفضل ما في استطاعتهم. ولا تمثل كنوز الجنة نفياً للعاطفة، وإنما هي حقائق العقل التي تصدر عنها كل العواطف، دون أن يكتمها شيء في عظمتها الأبدية..."
وهذا كله يبرز لزوم تعريف الإنسان بنفسه وبموضعه في ناموس الحياة بكل رونقه محررَاً من زيف الأثرة والغلو. بل تعريفه كيف يعثر على نفسه أولا عندما يعثر على المصباح المخبوء في صدره تحت إسم الضمير، والمدفون بين أكداس من أحجار الغرور التي تحجبه عن النور وتحجب عنه النور. وهذا كله يقتضي تجنب تملق غرائز الجماهير أو استجداء آراءها الفجة في أمور الحياة أو الموت وما أكثرها، وذلك مع أن الجماهير تتطلب فيمن يكتب أن يقول وأن يردد نفس آرائها مصوغة في نفس العبارات التي ألِفتها، ويعنيها اللفظ قبل المعنى، ويخلبها المظهر دون الجوهر... فإذا النتيجة حلقة مفرغة من خداع مدمر، ومن انهيار محتوم في روح الفرد والجماعة معاً.
بل أن الإتجاه السائد عند فلاسفة الروحية جميعهم هو على العكس من ذلك النقد لما يستحق النقد من آراء الجماهير وانفعالاتها الصاخبة، ولقيمها غير القويمة التي طالما جنت عليها فدفعت بها إلى مزالق خطرة، وإلى طريق لا تبتغيه من تخلف روحي وخلقي في عالم متطور أبداً، كاد أن يسبق الزمن في تطوره المادي والعلمي، حتى لقد أصبحت المفارقة ضخمة في عصرنا الحاضر بين تقدم العلوم وتخلف الأخلاق، وهو ما يهدد مستقبل الإنسان – في كل مكان – بأشد الأخطار لو استمرت هذه المفارقة في الإزدياد.
"...على الإنسان أن يدرك أن التطورات الآلية التي أدخلها بيئته وراح يلائم بينه وبينها لن تكون لها سوى نتيجة من اثنتين، وهما إما التقدم وإما الدمار حسب نجاحه في وصلهما بالتطور في بيئته الخلقية. فواجب الإنسان أن يضع جانباً معالم حضارته الباطلة ويقيم في مكانها معالمها الصادقة، وهي الكمال الذي يوافق كرامة الإنسانية. وليس المطلوب منه أن يقاوم التقدم الآلي – ولا طاقة له بمقاومته لما يتوقع له من المزيد في تقدم العلم والطب – بل عليه بتهذيب النفس والإرتفاع بمثلها العليا".
ومن يتأمل في روعة التقدم العلمي الذي حصل عليه الإنسان في قرن واحد يأخذه الذهول، ويدرك مدى صحة هذا القول وخطورته. ففي هذا القرن الواحد قفز الإنسان من ظهر الدابة إلى القطار، فالسيارة، فالطائرة، فسفينة الفضاء تقطع به – في سرعة مذهلة – ملايين الأميال في الفضاء إلى أن وصلت به إلى سطوح الكواكب والأقمار!
وفي هذا القرن الواحد انتقل هذا الإنسان من القتال ببندقية الصيد إلى التهديد بالصواريخ عابرة القارات حاملة الرؤوس الذرية التي لا تبقي ولا تذر، وتنذر الإنسان بشر النذر. فإذا كان عمر الحياة على هذا الكوكب الضئيل يمتد إلى مئات الآلاف من الأعوام، ومع ذلك فلم يقفز الإنسان في حضارته هذا القفز السريع إلا عندما بدأ العقل يعرف سبيله إلى الأسلوب العلمي في التنقيب عن حقائق الحياة، فماذا ينتظر منه مستقبلا بعد أن وضع قدميه فيه بعزم وثبات؟! وما ينتظر أن يعرف مستقبلاً من وسائل الخراب والتدمير؟!
ولكن ما يروع الإنسان الروحي ليس هو خطورة المستقبل على المادة وعالم المادة، بل ما تثيره في النفس من مشاعر هذه المفارقة الضخمة بين تخلف الروح وطفرة المعرفة المادية. فلو عرف الإنسان قدر نفسه... لعرف كيف يتطور سريعاً ليصبح هو بذاته السيد السعيد صاحب القلب العطوف والعقل الذكي، الجدير بمكانه السامي في الطبيعة...
عن (الإنسان روح لا جسد)
أدناه Older Posts لقراءة موضوعات أخرى رجاء نقر

No comments:

Post a Comment