Friday, June 5, 2009

محمود عباس مسعود: تلك النفس الشريفة

يمكنكم أيضاً زيارة موقع السويداء يوغا وقراءة المواضيع التالية بالنقرعلى العناوين أدناه:
الأرواح الراقية والمحبة * مع الحلاج في أشواقه * ابن مسكويه يتحدث عن الخوف من الموت * طاغور يتحدث عن الروح * الروح عند فلاسفة الإسلام * البحث عن معنى الحياة * عالم جديد * طاقة التركيز * الروح عند الأقدمين * روح الشرق * التحدي الأساسي * مفتاح سحري * أنوار مباركة * فلسفة الحياة * أنفاس الصباح * هذا العالم * لا تسمح للغضب بالسيطرة عليك * فلذات * مناجاة المدركات العليا * تلك النفس الشريفة * هذه المعرفة الروحية * مطلب واحد يستحق العناء * قانون ونظام وتسلسل منطقي * رسالة الإنسان الراقي * الغذاء المغناطيسي أو الفكري * عربي في ضيافة طاغور - الحلقتان * نثرات ضياء * قراءة في ألفية شبلي الأطرش * الفكر سجن وحرية * ثم همس الروح خلطة سحرية مشاهد من الهند لماذا رفض أرفع المناصب الموت بداية أم نهاية الكشف عن الكنوز بوذا والعاشقة في محراب معرفة الذات من الهوة إلى الذروة عندما أنذر الصمت همس الأعماق

لقد أجمعَ العقل السليم على خلود النفس وأثبت بأدلة عديدة أن النفس غير خاضعة للفناء أو العدم، وأنها (بعد مفارقتها الجسد) تبقى حية في الحياة الأخرى وتظل على ما كانت عليه من معرفتها لذاتها وممارستها لأفعالها العقلية.
وعدم فنائها يعود إلى أنها جوهرٌ بسيط لا أجزاء له. فإن ما ليس له أجزاء غير قابل للإنحلال ولا يجوز عليه الفساد الذي يصيب الأجسام المركبة.
غني عن القول أن فساد الشيء وانحلاله يكون بالموت وهو انحلال ما تركب من أجزاء كانت مرتبطة ببعضها بقوة تدعى "حياة" وتلك الأجزاء، بعد انحلالها عن بعضها، تبقى ولا تتلاشى. ما من مثال أو جوهر قط تلاشت أجزاؤه، وبناء على ذلك فالموت هو تغيّر لهيئة الجسم وتحوّله من حالة إلى غيرها. لكن النفس بسيطة، روحية، لا أجزاء لها وما ليس له أجزاء لا يمكن أن ينحلّ ويفسُد.
النفس بحسب كل المعتقدات تفترق عن الجسد إثر الموت، ودليلنا على ذلك هو الإكرام الفائق الذي كانوا يقدمونه للأرواح ومرافعتها في ديوان الجحيم وغيره إكراماً لها. وفي هذا يقول أفلاطون: "إن النفس هي نبتة سماوية وليست أرضية".
وهناك أدلة مأخوذة من أفعال النفس التي يشرحها علم السيكولوجي. فالتأمل في أعمال نفوسنا يؤيد الإعتقاد بأن النفس هي ذات جوهر روحي وتختلف عن الجسد. لدى التفكير العميق في مسألة دقيقة قد لا ينتبه المفكر إطلاقاً للأصوات من حوله مع أن تلك الأصوات تطرق حاسة السمع لديه. فالنفس إذاً غير الجسد ومستقلة عنه.
قال أحد الأدباء العظام: "إننا نسمع ألفاظاً عديدة وجملاً كثيرة لمعانٍ مختلفة. فما بال بعض الكلام لا يهيّج فينا خاطراً البتة وبعضه يثلج صدورنا ويفرحنا، وغيره يلهب غيظنا ويثير حفيظتنا؟ السبب هو التأثير العظيم الذي تحدثه الألفاظ على عنصر مستقل عن الجسد وهو النفس غير المادية."
كما يقول آخر: "إن الشعور الباطني الذي نحسّه في وجداننا متعلق بجوهر واحد عاقل ومتحرر من المادة."
النفس واحدة، إذ لو لم تكن روحاً واحدة لما كان في وسعها أن تجمع كل ما تتلقاه من معطيات – مهما كانت كثيرة – وتضمها في نقطة واحدة هي الفكر. وهل يمكن لأي شيء مادي أن يجمع الكثير من الأمور الماضية والبعيدة والحاضرة ثم يقابلها ببعضها ويحكم ويستدل ويستنتج من الأفكار التي أحرزها أفكاراً غيرها؟
كما تقدم، الواحد لا أجزاء له. وشهادة الوجدان أيضاً تنبئ أن كائناً غير المادة المنظورة يكمن في باطننا.. يتأمل الحقائق ويمارس الفضائل.
النفس تحاكم أفعالها في ذاتها وتجعل ذاتها مسؤولة عن أعمالها.
حياة النفس قائمة بإبراز أفعال العقل والإرادة الحرة كما يشهد بذلك وجداننا،وهذه الأفعال هي من صفات الحياة الأدبية الروحية.
هناك صراع قائم بين النفس وبين الجسد في تأدية الواجبات وتحقيق الرغبات الجسدية والروحية. وهناك الحافز الباطني لمراعاة الفضائل والحياة الأدبية الفاضلة. وهذا برهان على أن النفس مستقلة عن الجسد.
الإنسان بإيعاز من تلك النفس الشريفة يهتدي إلى منهج الكمال الأدبي والعقلي. وكثيرون ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك الكمال.
قال أفلاطون "الإنسان نفسٌ يستخدم جسداً."
لم يكن نابليون يعتقد بوجود الروح وقواها. ولكن في آخر لحظات عمره، عندما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة تمكن مع ذلك من القول "انظروا! ليس جسدي هو الذي كان كالحديد بل نفسي هي التي كانت تعمل من خلال الجسد."
قصارى القول أن الإنسان إنسانٌ بروحه. وبروحه يعرف ذاته ويمتلك قواه ويسيّر أعماله.
ولما كانت النفس بسيطة أي روحاً كانت خالية من الأجزاء، وما كان خالياً من الأجزاء لا يُحلّ، وما لا يُحل لا يموت، وما لا يموت خالدٌ باقٍ. فالنفس خالدة باقية.
ما من شيء في الكون يتلاشى. فالإنسان الذي يكون طفلاً ثم يصير شاباً ثم شيخاً ثم يموت وبعد قليل يصير غباراً.. فهل تلاشى شيء من الأجزاء التي كان مركباً منها؟ كلا، بل بانحلال جسده عاد كل عنصر اجتمع في تركيبه إلى أصله.
وهذا ينطبق على الشجرة الصغيرة التي تكبر وتنمو ثم تقطع وتحرق. فمادة نموها التي أخذتها من العناصر الطبيعية تعود بعد احتراقها إلى عناصرها الأصلية بحيث لو أمكننا أن نزن الأرض عند أول وجودها وأن نزنها الآن فلا نراها زادت درهماً ولا نقصت درهماً عما كانت عليه في البدء. فإذا كان الله لا يردّ شيئاً من الموجودات الهيولية إلى العدم فبديهي أنه لا يعدم النفوس البشرية. "يرجع التراب إلى الأرض كما كان وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها." (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.)
(فروحيَّ من هذا المقام ِ مطلـّلة ٌ تشارفكمْ عني وإن كنتُ باليا)
وقال حكيمٌ عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ما معناه: "المركـّب ينحلّ ويعود إلى أجزائه. فإن كان شيء يعود إلى ما جاء منه فالأرض للأرض والنفس إلى العلى."
إن قوى الإنسان كلها مدفوعة نحو كمال لا حد له قد لا تتمكن من الوصول إليه إذ لا توجد سعادة حقيقية كاملة في هذه الدنيا. فالسعادة الكاملة تقتضي انتفاء كل شر وامتلاك الخير والطمأنينة. فلا بد إذاً من وجود الحياة الأخرى لتحصل النفس على ما كانت ترغب فيه. فالله الرحمن الرحيم لم يضع في طبيعتنا هذه الميول جزافاً، ولا بد أن تتحقق أماني الروح بفضل ومنة منه سبحانه.
ما من إنسان على وجه الأرض، مهما كان معذباً إلا ويسأل نفسه ولو مرة عن سبب وجوده على الأرض. والراغب في حل لغز الحياة يضطر للتدقيق في كينونة الإنسان والبحث عن علة وجوده الغائية. الكائنات غير الواعية تخدم غايتها غريزياً دون معرفة منها أو إدراك لما تفعله. الإنسان وحده يميل إلى غايته بمحض اختياره وملء إرادته.
الإنسان مفطورٌ على الرغبة في إظهار الغاية التي خلق من أجلها. ولدى الملاحظة والتجريب نرى أن قوانا بأسرها تصبو إلى خيرات غير محدودة. أي أن القوة الحساسة تتشوق على الدوام إلى سعادة جديدة، والقوة العاقلة ترغب في تحقيق الحق المطلق بحيث أنها جعلته غاية وهدفاً للمباحث العقلية من أجل بلوغ أعمال جليلة ورقي وتطور على كل صعيد.
خلاصة القول أن الإنسان مهما تحققت رغباته يبقى متشوقاً إلى شيء آخر. أشواق الإنسان تدفعه دوماً نحو شيء لا نهاية له. وما لا نهاية له هو الكامل أي الله جل جلاله. وهكذا نستدل أن الإنسان غايته أن يتوصل إلى خالقه ويتنعم بالكمال المطلق.
(هذا ما توعدون لكل أوّابٍ حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب مُنيب. ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود).
والسلام عليكم
المصدر: الدر النظيم بتصرف
أدناه Older Posts لقراءة موضوعات أخرى رجاء نقر




No comments:

Post a Comment