Saturday, June 6, 2009

رسالة الإنسان الراقي

يمكنكم أيضاً زيارة موقع السويداء يوغا وقراءة المواضيع التالية بالنقرعلى العناوين أدناه:
الأرواح الراقية والمحبة * مع الحلاج في أشواقه * ابن مسكويه يتحدث عن الخوف من الموت * طاغور يتحدث عن الروح * الروح عند فلاسفة الإسلام * البحث عن معنى الحياة * عالم جديد * طاقة التركيز * الروح عند الأقدمين * روح الشرق * التحدي الأساسي * مفتاح سحري * أنوار مباركة * فلسفة الحياة * أنفاس الصباح * هذا العالم * لا تسمح للغضب بالسيطرة عليك * فلذات * مناجاة المدركات العليا * تلك النفس الشريفة * هذه المعرفة الروحية * مطلب واحد يستحق العناء * قانون ونظام وتسلسل منطقي * رسالة الإنسان الراقي * الغذاء المغناطيسي أو الفكري * عربي في ضيافة طاغور - الحلقتان * نثرات ضياء * قراءة في ألفية شبلي الأطرش * الفكر سجن وحرية * ثم همس الروح خلطة سحرية مشاهد من الهند لماذا رفض أرفع المناصب الموت بداية أم نهاية الكشف عن الكنوز بوذا والعاشقة في محراب معرفة الذات من الهوة إلى الذروة عندما أنذر الصمت همس الأعماق


لنتعلم كيف نسعى نحو حقائق الحياة لا نحو أوهامها، لأن من يسعى إليها يسعى إلى الله وهو الحقيقة الأولى والأخيرة للحياة.. وهو حياة الحقيقة ومركز كل عدالة وقِبلة كل عبادة. أما الأوهام فإلى زوال سريع. ولن نسعى لله عن طريق أية ممالأة أو محاباة بل – فحسب – عن طريق جهاد النفس عند جموح هواها وانطلاق غرائزها وأحقادها... ولنثق أن (جهاد النفس) هو أعظم المبادئ قاطبة وأسماها. وأن من يعرف كيف يجاهد نفسه هو قاضٍ عادل على نفسه وعلى الآخرين، وبطل صنديد تعرف له موازين البطولة قدره مهما ظل جندياً مجهولا في موازين الخديعة والمحاباة. ومجاهدة النفس هو التراث الحق الذي ورثه الإنسان من سفر الحياة الكريمة، وهو السبيل الأوحد للنهوض به ولرفعة شأنه في العالمين بطلاً كريماً وإنساناً جديراً بالحياة عظيما..
وأي مبدأ آخر غير هذا هو عبارة عن إحساس منا بعدم الثقة في أنفسنا وتغريرٌ من شيطان الأنانية الكامن فينا، ومن وحش الوصولية الرابض وراء أهوائنا وغرورنا واندفاعاتنا وجموحنا، وانحرافاتنا وسقوطنا. ومن لا يقاوم هذا الوحش الضاري يهلكه، ومن لا يصارعه يصرعه فيتركه محض أشلاء تثير الإشفاق والرثاء.
ولنقدّر أن الروح التي لا تعرف كيف ترتقي إلى تحقيق رسالة (مجاهدة النفس) تنزل إلى تحقيق رسالة الغرائز... رسالة القطيع في تضامنه البدائي لا رسالة الإنسان الراقي في مقاومته لعوامل التدهور مهما جاءته برّاقة المظهر زاهية الرداء، وكيفما زفها إليه تجار المبادئ والشعارات!
وتدهور الروح – كارتقائها – لا يحدث بغتة، بل هو جزاء طبيعي من صنع القرون والدهور التي لا حساب لها في زمان الطبيعة. فهو تدريجي بطيء، ولكنه متى توافرت دواعيه في أي مكان أمرٌ محتوم لأن نفس الأسباب تولـّد نفس النتائج. ومن شأنه أن يستفحل مع الوقت وأن يهبط بمستوى العقل والعاطفة – وهما أنبل ما يميز روح الإنسان في الفرد والجماعة معاً، في إصرار عنيد لا يوقفه إفراط في اعتقاد، ولا تفانٍ في عبادة أو طقوس.
أما العاطفة الإنسان القويمة – النابعة من العقل النامي – فهي مصدر كل ارتقاء في الروح، والسد المنيع في طريق كل تدهور فيها. ومن هنا كانت كلمة الحق – حتى في الأمور العادية التافهة الشأن الضئيلة القيمة – أقرب دون ريب إلى جوهر الإيمان الصحيح من كل صنوف العبادات التي عرفها البشر. لأن الله تعالى حق، بل هو وحده مصدر كل حقيقة نقية نطق بها اللسان أو شعر بها الوجدان.
ثم أن الحقائق تكشف الأباطيل، أما الأباطيل فلا تكشف الحقائق، بل تساوم العقل على التواطؤ معها، وتخادع الضمير للتضليل عنها في خفية عن العقل وفي مهارة بالغة... فأية حقيقة تتوقعها إذن من الضمير عندما يصبح معصوب الوجدان أبكم اللسان؟! وأي قرار تنتظره من وعي الإنسان عندما يخفى عنه مصدر كل حق وكل برهان؟..
فلندع نحن – بني البشر – الدين للديّان، ولنذكر أن الدين لله والله للجميع وأن الحقائق للعقل كالطعام للجسم. فعلى هضم الحقائق هضماً لائقاً تتوقف قدرة الإنسان العقلية وحجاه. كما تتوقف العافية والصحة على الطعام. فالرجل الذي يهضم عقله أكبر قدر من الحقائق هو أعقل الرفاق في المجلس وأقدرهم على الإقناع وأرقهم في الحياة معاملة ومعاشرة...
وهذا الفهم الموضوعي السليم لمعنى الإيمان هو أكثرها كرماً وسماحة، وأقربها إلى لب الحياة الراقية وجوهرها، وأدعاها إلى السمو بالعقل وبالعاطفة، وبالتالي بالروح الإنسانية حيثما وجدت وكيفما عاشت. وهذا الفهم يتسع لمحبة الله في كل خليقته من بني الإنسان، بل في كل ذرة من صنع يديه في هذا الكون وفي غيره من الأكوان. وأي فهم آخر لا يناقض حقائق الحياة الجلية فحسب، بل يناقض كل محبة، وبالتالي كل عقل وكل عاطفة نبيلة وكل عدل وكل دفعة للحياة الكريمة!
وبغيره هيهات أن تتحقق هذه المِنة الكبرى التي ينبغي أن يسعى كل عاقل إليها، وهي سعادة العقل والوجدان التي هي السعادة الوحيدة التي يعرفها ويعترف بها عالم الروح.. وهي سهلة المنال ولا تجيء مطلقاً عن طريق أي منطق ملتوٍ ولا عن طريق أي منطق أناني، ولا عن طريق خديعة الذات والتظاهر بمحبة الله والناس، لأنها أعظم مزايا الحياة قاطبة. وكل مزية عظمى تتطلب للوصول إليها جهاداً عظيماً، قويماً، مستقيماً في سبله وفي غاياته، حكيماً في أصوله وفي أسبابه، مستنداً إلى حقائق الأمور، بعيداً عن أوهامها وترهاتها، وشهوات النفس ونزواتها.
ولكل مزية من مزايا الحياة مسؤولياتها. وأخطر مسؤوليات الحياة في المستوى العقلي الراقي للوجود الفكرة النقية تنبعث من العقل في غير ما تكلف ولا عناء، وفي غير ما قيد ولا تحفظ. وذلك يتطلب شخصية ناضجة وفطرة سليمة وشجاعة في إبداء الكلمة، وقدرة على قبول الناس على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، مهما بدا فيها من عيوب، قد تكون في حقيقتها مزايا لا نفهمها ولا نقدّرها. ومن يذكر العيوب – ولو في مقام الحب لا الكراهية – لا يغتفرها بسهولة. فالأب لا يحب أولاده رغم عيوبهم، بل يحبهم لعيوبهم، ويرى فيها مظاهر ضعف الطفولة الجديرة بالحب وبالحماية، لا بالقمع وبالإنتقام، حتى تنمو مداركهم فتحررهم منها مهما بدت جسيمة.
وفي العلاقة بين بعض البشر وبعضهم الآخر لا يوجد أب راشد وأطفال صغار، بل أخوة ممتلئون جميعهم بأسباب الخطأ والعثار، وبكل صور الضعف والإنهيار. وأكثرهم غروراً هم أكثرهم خطأ ورذيلة، وشططاً واندفاعاً. فكيف يدعي بعضهم الوصاية على البعض الآخر للهيمنة حتى على ما تحتفظ به الضمائر في أقدس ركن منها، وتفتديه هانئة سعيدة بالمهج وبالأرواح؟!
وهذا الفهم السليم الوحيد للأمور لا يمكن أن يستقيم في ضمائر البشر إلا مع سحق أسباب الضغينة والبغضاء في غير ما تصنع ولا ادعاء، وإزاحة ما يعترض طريق الحقائق الناصعة من عقبات في الغرائز والشهوات، وفي الضمائر الملتوية عند الصغار والكبار. وإلى هذه المعاني أشارت آيات من القرآن الكريم:
(آمنا بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
كما تحدث عدد كبير من الفلاسفة والمتصوفين ومنهم الشاعر الفيلسوف محي الدين بن عربي إذ يقول:
لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبي إذا لم يكن دينه من شرعتي داني
وقد صار قلبي قابلاً كلَّ صـورة فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبــــــان ٍ
وبيت لأوثانٍ وكعبـــــــة طائفٍ وألواح توراةٍ ومصحف قــــــرآنِ
أدين بدين الحب أنـــى توجهتْ ركائبهُ.. فالحب دينــــي وإيمانــي

وفي نفس هذا الإتجاه كتب أمير الشعراء شوقي يقول:

الديــنُ لله من شاء الإلهُ هـدى لكل نفسٍ هوى في الدين داعيها
ما كان مختلف الأديان داعيـة ً إلى اختلاف البرايــــا أو تعاديـــها
الكتبُ والرسلُ والأديانُ قاطبة ٌ خزائنُ الحكمـــــةِ الكبرى لِواعيـها
محبة الله أصلٌ في مراشـــدها وخشية الله أسٌ في مبانيــــــــــها
تسامحُ النفس معنى من مروءتها بل المروءة في أسمى معانيــــــها
والسلام عليكم
المصدر: الإنسان روح لا جسد للدكتور رؤوف عبيد


No comments:

Post a Comment