Sunday, June 7, 2009

محمود عباس مسعود: عربي في ضيافة طاغور

يمكنكم أيضاً زيارة موقع السويداء يوغا وقراءة المواضيع التالية بالنقرعلى العناوين أدناه:
الأرواح الراقية والمحبة * مع الحلاج في أشواقه * ابن مسكويه يتحدث عن الخوف من الموت * طاغور يتحدث عن الروح * الروح عند فلاسفة الإسلام * البحث عن معنى الحياة * عالم جديد * طاقة التركيز * الروح عند الأقدمين * روح الشرق * التحدي الأساسي * مفتاح سحري * أنوار مباركة * فلسفة الحياة * أنفاس الصباح * هذا العالم * لا تسمح للغضب بالسيطرة عليك * فلذات * مناجاة المدركات العليا * تلك النفس الشريفة * هذه المعرفة الروحية * مطلب واحد يستحق العناء * قانون ونظام وتسلسل منطقي * رسالة الإنسان الراقي * الغذاء المغناطيسي أو الفكري * عربي في ضيافة طاغور - الحلقتان * نثرات ضياء * قراءة في ألفية شبلي الأطرش * الفكر سجن وحرية * ثم همس الروح خلطة سحرية مشاهد من الهند لماذا رفض أرفع المناصب الموت بداية أم نهاية الكشف عن الكنوز بوذا والعاشقة في محراب معرفة الذات من الهوة إلى الذروة عندما أنذر الصمت همس الأعماق

منذ بضعة أعوام عثرت على ثلاثة مجلدات قديمة من مجلة الهلال لمؤسسها المرحوم جرجي زيدان الغني عن التعريف. هذا الموضوع أنقله عن عدد أيار 1916 من الهلال.


في عام1914قام الأديب والشاعر اللبناني اللامع ذو الأفق الإنساني الواسع وديع البستاني – الذي ترجم رباعيات الخيام نظماً- بزيارة للفيلسوف والشاعر الهندي الأشهر رابندرانات طاغور وبعث بهذا الوصف الشيّق إلى جرجي زيدان الذي استهل المقالة بالكلمة التالية:

عاد صديقنا الأديب وديع أفندي البستاني من الهند فرغبنا إليه أن يبعث إلى الهلال بشيء عن الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور الذي نشرنا رسمه في الهلال الرابع من السنة الثانية والعشرين بمناسبة فوزه بجائزة نوبل عن الأدب. فكان جوابه سابقاً لرغبتنا لأنه كان قد كتب لنا رسالة عنه في أوائل يوليو سنة 1914 واتفق أنه عزم على القدوم إلى مصر قبل (إرسالها) فأبقاها بين أوراقه وابتدأ رحلاته في الهند وقصد الشاعر وزاره في بيته وفي معهده العلمي محققاً أمنيته المبينة في سياق الرسالة – وكان قيامه (عودته) من جزيرة سيلان قبيل إعلان الحرب (العالمية الأولى) بقليل على مركب ألماني فاضطر ... إلى تجشّم أهوال وركوب أسفار لم تكن قد خطرت له ببال إلى أن ألقته مطارح الغربة في بلاد البوير (جنوب أفريقيا) حيث أقام سنة ونيفاً والرسالة في حقيبته. ولم تصلنا إلا في أواخر الشهر الماضي. وسنذكر زيارته لهذا الشاعر النابغة ووصف كتبه الجديدة في مقالة أخرى يمهدها للهلال القادم.
كلمة البستاني:
قرأت الجملة الطيبة التي وصفتم بها شاعر الهند الخياليّ الفائز بجائزة نوبل الأدبية لسنة 1913 فجئتكم بهذه الكلمة آملاً أن أزيد قراء (الهلال) معرفة بهذا الشرقي العبقري النابعة. أما قيمة الجائزة المادية فهي ثمانية آلاف من الأصفر الرنان. وأما قيمتها المعنوية فلا أقل من أن تقدّر بما يزري بالقيم والأثمان من صحة النظر إلى الشرق والغرب كفرسيّ رهان في حلبات المكان والزمان يكرّان ويفرّان ويتجاريان ويتباريان ولو كره القائل (الشاعر الإنكليزي رديَرد كيبلنغ) "الشرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ ولن يلتقيا" بل التقيا ويلتقيان... وقد رأيت الشرق يخوض غمار الوجود.. فمن سديم غباره انتظمت عوالم الأديان التي وُلد فيها الغربي ومن أنوار آثاره تكوّنت عيون العلوم التي أصبحت للغربيين عيوناً يرون بها ما نرى ولا نرى.
بعد تفرّس رسوم طاغور المتعددة مما تزينت به صفحات الجرائد أو تحلت به صدور كتبه التي صدرت.. وبعد تدبّر ما رواه الراوون وكتبه الكاتبون عن أمسه ويومه وإرواء غلتي من نفثات يراعه بل زفرات صدره وشعاع نفسه – أجل بعد ذلك أوجبت على نفسي إكرامه وفرضت عليها احترامه وسننت لها زيارته... ما دمت أراني متسماً بشعار خدمة الأدب ومنتمياً إلى الشرق وطن الهنود والعرب. على أنني أود الآن أن أحاول وصف الرجل الخالد بكلمة ونعت كتبه القيّمة بعبارة فأطرف القارئ من البحر بقطرة أو درّة.. ومن الوادي بعصا أو صولجان.
كتبه هي أسفارٌ تسفر صفحاتها عن وجوه المعاني (المستقرة) في الصدور البشرية أو مرايا مصقولة، بلورها ألفاظ رقيقة أنيقة تنعكس فيها ظلال خيالات مترامية من حقائق النفس والقلب وعواطفهما الإنسانية والإلهية.
فهذا الشاعر مطربٌ يَطرَب ويُطرب وشاعر يَشعُر ويٌشعِر وفيلسوف يَعْلـَم ويُعلـّم وإنسان يحب الناس ويخدمهم بأصغريه ويديه. إنسان – هو في عين نفسه أقل من زهرة السوسن وفي نظر قومه (روح عظيم) متجسد ونزيل بين ظهرانيهم. فهو موسيقار يبتدع الألحان ويوقعها ويعزف بها وينظم الأشعار أغانيَ... ويرسل الأقوال أمثالاً.. إلا أنه يطير في سماء الوجدان لا على بساط الريح بل على جناح الخيال ويُخرج للناس ما يأخذ بمجامع ألبابهم لا من خاتم سحري بل من صدر مفعم ويراعٍ سيّال. ولو شاء لكان مثل أخويه مصوّراً (رسّاماً) يحاكي الطبيعة بريشته أو مثل رابعهم قديساً زاهداً متقشفاً بعيشته. ولكنه اختار أن (يتخشع) للطبيعة بتعهد حديقته ومعايشة أزهارها وأن يتفانى في العبادة بتخليد آثار نفسه وعقله وقلبه في صدور معاصريه و(الأجيال القادمة). فإن كان أخوه المتعبد يقضي الساعات إثر الساعات مستغرقاً في تأملاته الإلهية – صامتاً ساكناً حتى لتحسبه غصناً حيّاً فلا تستغرب تصاعد السناجب على جسده ووقوع العصافير على يده – فإنه (طاغور) يرى أن في الحركة بركة وأن في الحياة حياة وفي الموت خلوداً. فأبوابه مفتوحة وداره نادٍ وحديقته مدرسة وهو رب البيت وخادمه ونادل النادي ورئيسه وتلميذ الطبيعة وأستاذها.
وقد قرأت له كل ما صدر حتى اليوم مما ترجمه بقلمه إلى الإنكليزية من شعره ونثره البنغالي وكررت النظر فيه مراراً فما ازددت إلا شوقاً وتوقاً إلى مطالعة ما سيصدر أيضاً.. قصائده سداها خواطر الأطفال ولحمتها عواطف الأمهات..
ووجدت في المجلد الذي أسماه البستاني The Gardner قصائد رائعة شائقة شفافة تكاد تجتلي من خلال سطورها قلوباً خافقة ووجدانات هائمة. إذا تشربتها نفس الفتى العصري مجّت مشارب أهل القرن العشرين أو تذوقتها نفس الفتاة العصرية استهجنت أذواق بني هذا الزمان وبناته. ومنها ما يعوّض الخلي من لواعج الحب عواطفٌ شريفة تحيي موات قلبه وتبذر في نفسه حب الفضيلة والورع الحقيقيين. وعند البعض أن هذه القطع أجمل رونقاً وأرق حاشية وأسهل مأخذاً من الأغاني الروحية التي أظهرها في مجلد على حدة.
ووجدت كتابه الثالث الذي أطلق عليه إسماً بنغالياً هو "غيتانجلي" – قرابين الأغاني – مجموعة أناشيد أو أغاني دينية تتنسم منها روائح الصوفية ورنات القيثارة.. وهي على الجملة قطع من الخيال السامي... ورب مطالع لها يحسبها ألفاظاً مجموعة على نسق ما فيقف دونها وقوف الأمي تحت السماء لا يرمق دراريها وبدرها وثرياها بطرْف الشاعر ولا يراقب سياراتها وثوابتها وثواقبها وأبراجها بعين الفلكي.. وجل ما يرتسم على شبكية عينه نقط بيضاء في قبة زرقاء. على أن أعضاء ندوة آسوج (السويد) الأدبية لم يسعهم بعد الوقوف على هذه الأغاني والأناشيد إلا أن يحسنوا الظن في ناظم عقودها وناسج برودها الشرقي ابن الشرقي فحكموا له بالتفوق وأنالوه الجائزة وأعلنوا الخبر فاهتزت به الأسلاك البرقية في جهات المعمور الأربع. ولم يكن من أدباء آسوج وغيرهم إلا من اعترف لهم بالعدل والإصابة.
وقرأت له كتاباً رابعاً منقولاً إلى الإنكليزية بقلم أحد أبناء وطنه مضمونه حكايات أو روايات قصيرة أبطالها صبيان وبنات. وكتاباً خامساً مترجماً بقلمه مشتملاً على الخطب التي ألقاها في جامعتي أكسفورد وهارفرد وبعض المنتديات العلمية والأدبية في لندن. كتابه "سادانا" أو "تحقيق الحياة" هو سلسلة مقالات في الحكمة الدينية الهندية والفلسفة الدينية على الإطلاق.. حافل بالشواهد والتضامين من كتب الهنود المقدسة.. فثبت لي من جديد أن رابندرانات طاغور صاحب "الهلال" و"البستاني" و"قرابين الأغاني" شاعر فيلسوف قديس وإنسان يحب الله والطبيعة والإنسان بنفسه وعقله وروحه.
أما أسلوبه فتغلب عليه مسحة الشعر النثري أو النثر الشعري. وهو سهل العبارة عميق المعاني أو قليل الكلام كثير الدلالة. وقد احترت بادئ بدء كيف أنقل شيئاً من تلك الاثار الرائعة إلى لغتنا المحبوبة معتبراً (آخذاً بعين الإعتبار) مزاياها وأذواق أبنائها.. فاستخرت الله وترجمت جملة منها وهذا نموذج عما نقلته شعراً:
يهمّ لساني أن يترجمَ عن قلبي
ويثنيهِ معهودُ ازدرائكَ بالحبِ
فأهزأ من نفسي وسرّي أذيعهُ
نكاتاً وقد تكفي الإشارة ذا اللبِّ
وأكتم آلامي وأبدي طفيفهــــــا
لعهديَ أن الفيل عندكَ كالضبّ
أود التزام الصدقَ في سرد قصتي
وأخشى التباس الصدق عندك بالكذبِ
فعمداً أداجي والحقيقة عكسها
وإن شئتُ حصّلت الحقيقة َ بالقلبِ
وأظهرُ علاتٍ لدائي توافهاً
لأنكِ تخفين اختبارك في طبي
وعندي من اللفظ الأنيق جواهرٌ
أضنّ بها أن لا تباع على كسبِ
أتوق إلى صمت ولا أستطيعهُ
ونحن على وصل وجنباً إلى جنبِ
أخافُ لعلَ القلبَ يرقى إلى فمي
فيفضح سري وهو غرّ بلا لبِّ
أواريهِ في هذري وأهذي مثرثراً
وأحملُ سرّي في ضلوعيَ لا عبّي
وأنكأ جرحي مشفقاً مترفقاً
مخافة أن تدميه بالطعن والضربِ
قضى الحبُ جرحي لا يطيبُ مدى المدى
وفي عينك النجلاء سهمٌ من الهُدْبِ

... شاعرنا الروحاني النابغة رابندرانات طاغور مخبرُه أعظم من خبَره. وقد زرته وآكلته وشاربته وحادثته، فازددت بآثاره إعجاباً، ولذاته إكراماً، ولعبقريته إجلالاُ. وأيقنتُ أن له نفساً سامية، تنبعث من عينيه أشعة سنية، وتسيل مع صوته العذب الرخيم نغمات شجية، وتتلألأ خلال عباراته فرائد معان درية. وقد أعود إلى شأنه فأسرد طرفاً من سيرته وترجمة والده الخالد الأثر. وحسبي الآن ذكر شيء من شمائله وأحواله، على ما تجلت لي أثناء يومين قضيتهما في ضيافته.
أما منزله الأصلي ومسقط رأسه فهو مدينة كلكتة الشهيرة حيث يقيم اليوم بنوه وذووه. ولكنه منذ بضع سنين يقضي معظم عامه في ناحية من (بلبور: قرية على أربع ساعات بالقطار من كلكتة)، كان والده من قبله قد انتحاها صومعة ومنسكاً، وثابر على انتيابها (انتجاعها) مدة ثلاثين سنة، طلباً للسكينة والطمأنينة، ومواصلة للتأمل والتروّي في الذات الإلهية.
معهده العلمي
وما دأبه في هذا المنقطـَع إلا تعهّد المدرسة التي أنشأها فيه تخليداً لذكرى أبيه. وقد أسماه "شانتينيكتان" أي (دار السلام) تيمناً بعبارتين كان والده يرددهما في تأملاته، هما الآن منقوشتان على نصبين من الرخام تحت الشجرتين الأختين اللتين كان يفيء إلى ظلهما في الهجيرة: (العبارة الأولى: الله هو السلام التام، هو الصلاح التام، هو الفريد الوحيد. والعبارة الثانية: الله سلوة نفسي، وفرح قلبي، وسلام روحي.)
وهذه المدرسة عامرة راقية، أسسها ولا يزال ينفق عليها من ذات يده وعليها وقف جائزة نوبل (8000 جنيه)، واكتفى بالوسام الذي جاءه معها من صاحب الجلالة ملك آسوج. وفيها من الطلبة مئتان ونيف، ومن المدرسين نحو الإثني عشر. ومبانيها متعددة متفرقة، تتخللها حدائق حديثة الإنشاء، وساحات للرياضة البدنية. ومن صروحها أيضاً منزل الشاعر ومسكن أخيه الفيلسوف ودار الضيوف وهيكل العبادة. وقد قصد بإنشاء هذا المعهد الشريف إلى غاية سامية هي: معاونة الأحداث على تهذيب نفوسهم، وتثقيف عقولهم، وتبيّين ما بينهم وبين الطبيعة والذات العلوية. وطريقه إلى هذه الغاية، تلقينهم العلوم، وتعويدهم مراقبة الوجدان، وسبر غور النفس، والنظر إلى مشاهد الكون بعين المتبصر المتدبر. وقد تراهم تارةً مجتمعين في الهيكل، أو متفرقين هنا وهناك، فترى عيوناً شاخصة، وجباهاً مفكرة، ولا تسمع إلا أغاريد العصافير وأغاني الجداجد (الصراصير). وقد تمر بهم (مرة) أخرى فلا ترى إلا عيوناً متألقة، وثغوراً باسمة، وتسمع منهم كل شجيّ رخيم من التراتيل والأناشيد، مما نظمه ولحّنه "أستاذهم الإلهي".
أخلاقه
وما الأستاذ الإلهي (غوروديف) إلا شاعرنا بعينه. وإذا علمت أن قومه يتبركون (به) تحية وسلاما، وأنه في عيونهم ذو صفة علوية، وعجبت لذلك – فلا بدع أن يقضي عجبك كله كونه أودع من أودعهم، وأرقّ وألطف من زهرات الياسمين التي يقدمونها له قرابين إخلاص ومحبة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن كاتب هذه السطور واهمٌ أو مبالغ في شأن صاحبه. فحسبه أن يأخذ بما يلي دفعاً لمثل هذا الريب.
منذ بضعة أعوام انضم إلى عدد المعلمين في معهده هذا أستاذان إنكليزيان، أندروز وبيرسون. وكلاهما "معلم علوم" الواحد من جامعة كمبردج والآخر من جامعة أكسفورد. والأول من الكتـّاب المؤلفين المعدودين، وقد أشار إليه رمزي مكدونالد (عضو في مجلس النواب البريطاني) في كتابه (يقظة الهند) بعبارات الإعجاب والإطراء. وقد كان - إلى أن سحرته عبقرية طاغور الشعرية الروحانية - من زعماء المبشرين، وأستاذاً ماهراً في أكبر الكليات الهندية التابعة للحكومة. عرف الشاعر، فعشقه وتتيّم له وقال على الدنيا ومن فيها السلامُ. واتخذ الزي البنغالي، واقتنع من العالم بما يصيب نفسه وقلبه من مصاحبة هذا النابغة الشرقي. وهو اليوم – وقد شهدته بعيني – لا يأنف أن يخلع حذاءه في فناء الدار دون الدخول على رابندرانات طاغور أو أخيه الشيخ الفيلسوف. ولكن أمر زميله (بيرسون) أغرب وأعجب. فإنه قدم الهند، وآثر على جميع مراكز الحكومة التي عُرضت عليه وظيفة مدرّس في معهد (دار السلام)، إرواءً لغلة يضرمها في صدره كلفه الشديد بشاعر القلب والروح رابندرانات طاغور. وهو شاب في العقد الثالث من سنيه، دمث الخلق، ليّن العريكة، جمع بين دقة الإحساس وسموّ المدارك. وقد رأيته وجلست إليه وسمعت خبره من فمه قال:
علمتْ والدتي بصلتي "بالأستاذ الإلهي" فكتبت إليَّ من لندن تؤنبني وتلحّ عليّ بالإنفصال عنه بدون ما تردّد أو تأخر. وكنت ولا أزال بَرّاً بها حريصاً على رضاها، فشقّ عليّ طلبها وحرت في أمري. وكاتبتـُها وحاولت إقناعها بأن الأستاذ جدير بشغفي به وتتلمذي له، فلم أوفق إلى شيء من ذلك. واضطررت أن أنتهي لنهيها، وعدت إلى لندن وقلبي في (دار السلام) هذه. وما هو إلا أن مرضتُ واشتدّ عليّ الداء، فهزلني وألزمني الفراش. كل ذلك وأمي الحنون ترأمني وترفق بي وتستبدل الطبيب بالطبيب وحالي تزداد سوءاً من حين إلى آخر. وقبل أن يسلمني الطبيب اقترح عليها أن تجاريني في رغبتي وتسمح لي بالعودة إلى الهند، وكان ذلك. ثم اتفق أن ذهب الأستاذ (طاغور) إلى لندن. وما كادت تعلم بوصوله حتى جاءته وجلست إليه بضع دقائق وخرجت من لدنه (من عنده) رأساً إلى مكتب البريد فسطرت لي أمرها الوالدي بالبقاء في هذه الدار ولزوم رابندرانات طاغور.
زد على ذلك أن قومه يتريثون (ينتظرون) موعده لتأدية فرض العبادة في الهيكل، فإذا أزفت الساعة تهافتوا متواردين، فضاق بهم رحبه وازدحمت جماهيرهم في الشارع. وما ذلك إلا دليل ما له من المكانة في قلوبهم ونفوسهم. وقد عرفت حكومة بريطانيا العظمى قدره فزانت صدره بوسام ومنحته لقب "سِر Sir" (فارس) تأييداً لحسن ظنها فيه.
هذا مقامه في بيئته ووطنه. مقامٌ سام ٍ حله عن جدارة لا غش فيها. ولا بد لي هنا من الإستطراد إلى وصف أخلاقه فأقول موجزاً. إنه أنيس لطيف، بيّن الدعة والتواضع، جامع بين السذاجة والسموّ في زيّه وعاداته وحديثه وأسلوبه وفي كل ما يأتيه من حركة أو سكنة. ميّال إلى الطبيعي الفطري، وكل مستحسَن أو مفيد من الصناعي والمكتسب. صريح في قوله وعمله، يتوخى مجاراة الطبيعة والحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وهذه نبذة من حديثٍ دار بينه وبين الأستاذ أندروز ونحن إلى مائدة الفطور يمكن اتخاذها أنموذجاً لكيفيفة مجرى أفكاره ومنهجه في تهذيب الطلبة والمعلمين الذين في معهده:
على إثر وفاة لادي هاردنغ (قرينة لورد هاردنغ نائب ملك بريطانيا وامبراطور الهند) قامت قيامة أشراف البلاد ولبسوا عليها الحداد أي أنهم عقدوا الإجتماعات الحافلة، وقرروا على الصورة المألوفة رفع عواطف (الأسف الشديد) إلى مقام بعلها السامي. وكان الأستاذ المذكور قد اقترح على صاحبنا الشاعر أن يجتمع الطلبة في الغد في الهيكل فيرتلوا إحدى قصائده المشيرة إلى الموت، ويُبدوا حزنهم من جرّاء هذا المصاب. فينا (فبينما) نحن الثلاثة نتناول الطعام النباتي (وطاغور وقومه نباتيون من نشأته) انطلق لسان الشاعر بهذه الكلمات: أما اقتراحك الذي أعجبني بادئ بدء فقد تدبرته، ووجدت أنه من الظلم للطبيعة، ومن التعدي على الحقيقة، أن نحمُل أحداثاً لا عهد لهم بالسياسة، ولا معرفة لهم بالفقيدة، على التفجع والجزع عليها، حتى كأنهم خسروا بوفاتها أماً أو جدّة أو أختاً أو خالة، وهي غريبة عنهم ولم يروا لها وجهاً. وما كاد يبلغ هذا الحد من القول حتى شعر بأن مخاطبه اقتنع تماماً... وهذا شأنه في النظم والنثر، فإنه حريص على أن تجيء عبارته سهلة المأخذ، سلسة التركيب، قليلة الكلام، كثيرة الدلالة.
وقد سمعت غير واحد ممن تفرّسوا رسمه المنشور في العدد الأخير من هذه المجلة يبدون عجبهم لشدة الشبه بين ملامح رابندرانات طاغور الهندي وتقاطيع الوجه السوري أو الأوروبي – فأوجبت على نفسي إثبات هذه الكلمة في سياق هذا المقال:

إن رابندرانات طاغور البنغاليّ، كمعظم قومه، ولا سيّما أهل الجهات الشمالية الباردة الإقليم، ممن تغلـُب عليهم السمرة الضاربة إلى البياض. ومنهم أبيض البشرة صافي اللون. وشديدو السمرة من سكان الهند هم في الغالب من المدراسيين وطوائف معينة من الأهالي.
وهو كما ألمعت في ما تقدّم موسيقار مغنٍّ. فإنه يبتكر اللحن وينظم له الأنشودة، أو ينظم القصيدة ثم يضع لها لحناً. وكل نظمه بلغته وهي البنغالية إحدى بنات السنسكريتية، لغة الهند القديمة، وجدّة أكبر لغات العالم الميتة والحية. وقصائده منتشرة مشهورة يتغنى بها الفتيان والفتيات. والهنود مولعون بالغناء يطربون له كل الطرب، بل هو من طقوس العبادة عند سوادهم الأعظم. وقد اشتهر صاحبنا في ترقية هذا الفن وإعلاء منابره.
ومن ذلك أنه اتخذ "الموسيقى" الشرقية عنواناً لخطاب جليل ألقاه في حفلة افتتاح جامعة بنارس. أما صوته فهو العذب الرقيق الشجيّ، وكأنه يحسّ بجماله ويشعر بحسنه عندما يشير إلى أغانيه الروحية فيرى أن خير قربان يجيء به ربَه أنشودة أو دورٌ من أنشودة. ولا غرو إذ ذاك أن جعل عنوان كتابه الفائز "قرابين الأغاني".
مذهبه في الدين
ومهما يكن من ذلك فإن رابندرانات طاغور ووالده من قبله لا يجثوان لصنم ولا يعبدان وثناً. بل أن دفندرانات طاغور الوالد قد خلد إسمه في صفحات تاريخ الهند بما سعى وأفلح، في سبيل مقاومة الوثنية ودمغ الطقوس التي تشتمّ منها رائحة الصنمية بالباطل الزهوق..
ورابندرانات نفسه بعيد بأقواله وأفكاره وأفعاله عن الوثنية وما إليها بُعد الثريا عن الثرى، وحسبك أن تعلم ما بهيكله. إنه خالٍ، لا تمثال فيه ولا شبه تمثال. وما هو إلا أربعة جدران تتخللها أبواب ونوافذ، وأرض وسقف عاريان، ولا أثاث فيه ولا رياش إلا كرسي من الخوص، لا غير ولا أكثر. وفي هذا الهيكل رأيته أول مرة، وكان إذ ذاك يقرأ على تلاميذه آخر ما كتب من الحكايات الأخلاقية. وفي هذا الهيكل نفسه ألقيتُ خطاباً على أولئك التلاميذ في أحوال مصر وسوريا. وفيه يجتمعون للإنشاد والترتيل. وما ظنك في مذهب مَن هذا هيكله؟
كتبه
أما كتبه فقد تولت نشرها شركة مكميلان الشهيرة وأصدرت منها حتى الآن (قرابين الأغاني) و (البستاني) و (الهلال) و (تحقيق الحياة) و (الصورة) و (مكتب البريد) و (ملك الغرفة المظلمة) و (أشعار كبير) وهو منتخبات من آثار شاعر هندي نقلها إلى الإنكليزية نثراً. وهنا أقول أنه هو الذي ترجم كتبه إلى الإنكليزية بقلمه وأصلها بنغالي. إلا أنه نقلها جميعاً نثراً لا نظماً. ولكن لنثره الإنكليزي أسلوباً عجيباً، ورونقاً رائعاً أعجب بهما قراؤه كل الإعجاب. وقد أشارت إليه إحدى الجرائد الشهيرة في تقريظها لكتابه الفلسفي (تحقيق الحياة) فقالت: " إن الصيغة اللفظية التي يودعها طاغور حكمته العالية هي أيضاً سامية رائعة. وحسبنا القول أن عبارته طلية جذابة. تمتلك قارئها وتنال من قلبه وعقله فتملِكه ما فيها من عاطفة أو فكرة."
وديع البستاني
أدناه Older Posts لقراءة موضوعات أخرى رجاء نقر

No comments:

Post a Comment