Sunday, November 9, 2014

أربع طرق جوهرية



أربع طرق دينية جوهرية
للمعلم برمهنسا يوغانندا
ترجمة: محمود عباس مسعود

إن ارتباط الذات الروحية بالجسد والعقل هو السبب الأساسي لكل آلامنا وقيودنا وتقييداتنا وتقصيرنا وقصوراتنا.  وبسبب هذا الارتباط نشعر بالإثارة كالألم واللذة لدرجة لا يمكننا معها الإحساس بالغبطة أو الوعي الإلهي.  فالدين في جوهره يشتمل على التلافي الدائم للألم وبلوغ الغبطة النقية أو الله.
وكما أن صورة الشمس الفعلية لا يمكن رؤيتها واضحة في سطح الماء المرتج، هكذا الطبيعة الحقيقية المغبوطة للنفس الروحية (انعكاس الروح الكلي) لا يمكن فهمها وإدراك كنهها بفعل أمواج الاضطراب والقلق الصادرة عن تماهي النفس مع حالات الجسد والعقل المتقلبة المتغيّرة.  فكما أن الماء المخضوض يشوّه صورة الشمس الحقيقية، هكذا يشوّه الفكر المضطرب طبيعة النفس الباطنية دائمة الغبطة بفعل ذلك التماهي أو الارتباط.
الغرض من هذا الفصل هو بحث أسهل وأصوب وأنجع الطرق التي يمكن للجميع ممارستها، والتي من شأنها تحرير الذات الروحية دائمة الغبطة من ارتباطها الأليم بالعقل والجسد، وبالتالي تجنيبها الدائم  للألم والمعاناة والارتقاء بها إلى الغبطة الروحية التي هي لب الدين.
تقول كتب الحكمة الشرقية:
"إن استطعت أن تسمو على الجسد وأن تدرك أنك روح، لامتلكت الغبطة الأبدية، ولتحررت من كل ألم."
 هناك أربع طرق دينية جوهرية عالمية تساعد ممارستها اليومية على تحرير الذات الروحية من قيود الجسد والعقل. وهذه الطرق الأربع تشمل كل الممارسات الدينية المعقولة والتي علـّمها أو أوصى بها الأنبياء والقديسون والحكماء المستنيرون.
الممارسات الدينية هي ما أقرّها الأنبياء ولقـّنوها في صورة مذاهب متعددة.  ذوو البصائر المحدودة يقصرون عن فهم الأهمية الفعلية لهذه المذاهب فيتقبلون معانيها الظاهرية وتدريجياً يهبطون إلى مستوى الطقوس والشعائر والأشكال والعادات والتقاليد والممارسات الصارمة. وهذا هو مصدر التعصب للأحزاب والطوائف.
يجب أن ندرك أننا لم نـُُخلـَق للأحكام والقوانين ولكنها وُجدت من أجلنا، فهي تتغير بتغيّرنا وتتطور بتطورنا، ومن واجبنا التمسك بجوهر القاعدة لا بمظهرها الخارجي بجهل وتعصّب.
العادات وصنوف العبادات تختلف باختلاف المذاهب، لكن الجوهر النقي لمذاهب الأنبياء المختلفة هو واحد في صميمه، غير أن معظم الناس لا يفقهون ذلك!
كبار المفكرين يحاولون التعرف على الحق الأسمى باستخدام قواهم العقلية فيخفقون في مسعاهم لأن الحقيقة العظمى لا يمكن إدراكها عن طريق المعرفة العقلية وحسب.
المعرفة تختلف عن الفهم المجرد.  فمن غير المعقول أن نفهم بالعقل حلاوة العسل إن لم نكن قد تذوقنا العسل من قبل. وبالمثل فإن المعرفة الدينية تبزغ من أعماق تجربة النفس البشرية. هذا ما نفعله غالبا عندما نحاول فهم الله والمذاهب الدينية والأخلاقية، إذ نادراً ما نسعى لمعرفة هذه الأمور عن طريق التجربة الروحية الباطنية.
ومن المؤسف أن ذوي القوى العقلية القادرين على استخدام عقولهم للكشف عن حقائق العلوم الطبيعية وحقول المعارف الأخرى يظنون أن باستطاعتهم أن يدركوا بالعقل الحسي أسمى الحقائق الدينية والأخلاقية. لكن وللأسف فإن عقول هؤلاء وقواهم المفكرة بدلاً من أن تكون عوناً لهم غالباً ما تعمل كحواجز تصدّهم وتحول دون تعرفهم على جوهر الحقيقة.
والآن دعنا نلاحظ الطرق الدينية الأربع التي تميّز النمو الروحي:
أولاً: الطريقة العقلية - وهي الطريقة الطبيعية الشائعة لكنها غير فعّالة من حيث الإدراك السريع للغاية. إن التطوّر والنمو العقلي هما أمران طبيعيان ومشتركان لكل الكائنات المدرِكة.  إن وعينا بالذات هو ما يميّزنا عن الحيوانات الدنيا التي تتمتع بدرجات متفاوتة من الوعي ولكن ليس وعياً بالذات.
وفي مراحل وعمليات النشوء والارتقاء نجد أن هذا الوعي يصبح تدريجياً وعياً بالذات. فمن الوعي الحيواني يبزغ الإحساس بالذات، وتدريجيا يحاول الوعي تحرير ذاته ومعرفة ذاته بذاته. وهكذا ينتقل إلى الوعي بالذات؛ وهذا الانتقال مردّه سنـّّة النشوء والتطور.  فالنفس البشرية المرتبطة بالعديد من الحالات الجسدية والعقلية تحاول تدريجياً وبكيفية طبيعية الرجوع إلى ذاتها عن طريق ذاتها.
وتنمية عملية التفكير الواعي هي إحدى الطرق التي تختارها الذات الروحية كي ترتقي بذاتها وتتحرر من القيود الجسدية والروابط العقلية.  ومجهود الذات الروحية في الرجوع إلى ذاتها عن طريق تنمية الفكر والتفكير هو أمر طبيعي. تلك هي طريقة العالم.
الروح الكلي يعرب عن ذاته في مراحل مختلفة من النمو:  من الأدنى إلى الأعلى. في الحجر والتراب لا يوجد وعي أو حياة بالكيفية التي ندركها، أما في الأشجار فهناك نمو نباتي، أي اقتراب من الحياة. ومع ذلك لا توجد حياة طليقة غير معوّقة أو عملية تفكير واعية على الإطلاق. في الحيوانات توجد حياة ويوجد وعي بالحياة.  أما في الإنسان – الذروة – فتوجد حياة مع وعي بها، إضافة إلى وعي ذاتي داخل النفس.  لذلك من الطبيعي للإنسان أن يطوّر ذاته عن طريق التفكير والتحليل والتأمل من خلال الدراسة المعمقة للكتب، وعن طريق  البحث والتنقيب والتمحيص والتجريب ومحاولة الوصول إلى أصل العلل والمعلولات في العالم الطبيعي.
وكلما تعمّق الإنسان في تفكيره كلما كان مستخدِماً للطريقة التي بواسطتها بلغ مستواه الحالي في عملية الإرتقاء الكوني، وكلما اقترب من الروح الأعظم.
وبما أننا نرتقي بواسطة العقل إلى ما فوق الجسد ومتطلباته، فإن التطبيق الصحيح والإرادي لهذه الطريقة العقلية سيجلب نتائجَ محددة وأكيدة. إن تدريب العقل عن طريق الدراسة الجادة المتمعنة بغية تحصيل المعرفة في حقل ما يساعد على تحسين الوعي بالذات بعض الشيء لكنه ليس – من حيث الأهمية – بمستوى عملية التفكير الهادفة إلى تخطـّي الجسد ومعاينة الحقيقة.
في الهند تدعى الطريقة العقلية في أسمى صورها (جنانا يوغا) أي بلوغ الحكمة الحقيقية عن طريق التذكـّّر والتمييز؛ كأن يذكـّر الإنسان نفسه على الدوام: "أنا لست الجسد ولا يمكن لصور الوجود الأرضي العابر أن تؤثـّّر بي. أنا روح."
ولكن من عيوب هذه الطريقة أنها عملية بطيئة لإدراك الذات الروحية ذاتها، وقد تتطلب زمناً طويلاً.  ففي حين تشرع الذات الروحية بإدراك الوعي الذاتي تبقى مع ذلك منشغلة بسلسلة من الأفكار العقلية العابرة التي لا يربطها بها رابط. أما سكينة الروح فتفوق العقل وتسمو على الإحساسات الجسدية، مع أنها – عند إدراكها - تغمر تلك الإحساسات وتتخللها.
ثانيا: الطريقة التعبدية -   وتشتمل على محاولة تركيز ذهننا على فكرة واحدة بدلاً من تركيزه على مجموعة من الأفكار المتنوعة وعلى أمور مختلفة (كما في الطريقة العقلية.)
الطريقة التعبدية تتضمن كل أشكال العبادة كالصلاة (التي يجب تحريرها من كل الأفكار الدنيوية). في هذه الطريقة يجب أن تحصر الذات الروحية ذهنها بعمق وخشوع على ما تختار التركيز عليه: سواء على فكرة محددة للإلوهية أو على الوجود الكلي المطلق.
النقطة الأساسية هي أن يركـّّز المريد عقله على فكرة تعبدية واحدة بهمة وحماس كبيرين.  وبهذه العملية تتحرر الذات الروحية تدريجياً من التشويشات الفكرية العديدة وتمتلك الوقت والفرصة اللازمين للتفكير الذاتي بجوهرها.  فعندما نصلـّي بإخلاص تام من صميم قلوبنا ننسى كل الإحساسات الجسدية ونـُُقصي جانباً كل الأفكار المتطفلة التي تحاول أن تستقطب تفكيرنا وتشغل بالنا.
وكلما كانت صلواتنا عميقة كلما كان رضاؤنا كبيرا. وهذا يصبح المقياس الذي به نقيس مدى ومقدار تقرّبنا من الله الذي هو الغبطة العظمى. وإذ ندع الإحساسات الجسدية جانبا ونضبط الأفكار المشتتة الناشزة يتضح لنا سمو هذه الطريقة على سابقتها.
ومع ذلك فلهذه الطريقة قصور وصعوبات نابعة من تعلق الذات الروحية الطويل والمتواصل بالجسد وعبوديتها له، وهي تحاول دون جدوى إبعاد ذهنها عن مجال الإحساسات الجسدية والعقلية.
وبالرغم من رغبة الإنسان الصادقة في الصلاة أو الاستغراق التام في إحدى صور العبادة، يبقى ذهنه عرضة لغارات الأحاسيس البدنية الجامحة والأفكار العابرة التي تقوم الذاكرة بعرضها واستعراضها. في الصلاة غالبا ما نكون مهتمين جداً بتهيئة الظروف الملائمة للصلاة أو متحمسين كل الحماس للتخلص من المضايقات الجسدية.
وبالرغم من كل مجهوداتنا الواعية فإن عاداتنا غير السليمة التي أصبحت طبيعة ثانية بالنسبة لنا تتسلط على أماني الروح وتقيّد ملكاتها.  وبالرغم من رغبتنا الصادقة يظل العقل مضطرباً مشوشاً بحيث يصدق عليه القول "حيثما يكون فكرك فهناك يكون قلبك أيضا."  لقد طـُلب منا أن نصلـّي لله من كل قلوبنا، ولكننا نبتهل عادة وقلوبنا تتقاذفها عواصف الأفكار والانطباعات الحسية.
ثالثا: الطريقة التأملية – هذه الطريقة والطريقة التالية لها هما طريقتان عمليتان بحتاً وتحتويان على أسلوب تطبيقي من التدريب، ويوصي بممارستهما عظماء الحكماء الذين تعرفوا على الحقيقة في حياتهم. وأنا شخصياً قد تعلمت هاتين الطريقتين من أحد هؤلاء الأقطاب الروحيين العظام.
وبممارسة طريقة التأمل حتى تصبح عادة راسخة نستطيع أن نجلب لأنفسنا حالة من النوم الواعي. هذه الحالة الساكنة والممتعة غالبا ما نختبرها عندما نكون مستغرقين في نوم عميق ونقترب من اللاوعي، أو عند الاستيقاظ منها والاقتراب من حالة الوعي.
في هذه الحالة من النوم الواعي نتحرر من كل الأفكار والإحساسات الجسدية الخارجية ويتسنى للنفس التفكير بذاتها والاقتراب من الحالة السعيدة بين الفينة والأخرى، طبقاً لعمق التأمل ووتيرة الممارسة.
في هذه الحالة نكون غافلين عن الاضطرابات الجسدية والعقلية – التي تشغل الذهن - ومتحررين منها. وبعملية التأمل هذه يتم التحكم بالأعضاء الخارجية والحسية عن طريق تهدئة الأعصاب الإرادية كما في حالة النوم.
الحالة التأملية هذه هي الأولى وليست الأخيرة للتأمل الفعلي. في (النوم الواعي) نتعلم ضبط الأعضاء الحسية الخارجية فقط. والفارق الوحيد هو أنه في النوم العادي يتم ضبط الأعضاء الحسية تلقائياً، بينما في التأمل يتم ضبط الأعضاء الحسية بالفعل الإرادي. ومع ذلك تبقى الذات الروحية في مرحلة التأمل الأولى عرضةً للتشويش من أعضاء الجسد الداخلية اللاإرادية كالرئتين والقلب وأعضاء أخرى نظن خطأً أنه لا يمكن التحكـّم بها.
لذلك ينبغي لنا البحث عن طريقة أفضل من هذه، لأنه ما لم تتمكن الذات الروحية من تعطيل الإحساسات الجسدية بالإرادة، وكذلك الأحاسيس الداخلية التي تسمح بظهور الأفكار، فإنها تبقى عرضة لهذه التشويشات دون الأمل في السيطرة عليها وقمعها، أو امتلاك الفرصة لمعرفة ذاتها.
رابعا: طريقة اليوغا العلمية – قال القديس بولس "أموت كل يوم". وقد عنى بذلك أنه عرف طريقة تمكـّنه من ضبط أعضائه الداخلية وتحرير ذاته الروحية بالإرادة من الجسد والعقل معاً. مثل هذا التجربة يمرّ ويشعر بها الأشخاص العاديون غير المدرّبين في حالة الموت الأخير، عندما تتحرر الذات الروحية من الجسد البالي.
وبالتدريب الصحيح وممارسة طريقة عملية ومنتظمة يتسنى للممارس الشعور بانفصال الذات الروحية عن الجسد دون أن يختبر الموت الأخير.
وسوف أعرض هنا فكرة عامة عن الطريقة وعن النظرية العلمية الصحيحة التي ترتكز عليها. ما أعرضه هو من تجربتي الشخصية ويمكن القول أنها ذات صحة عالمية.  ويمكنني القول والتأكيد أيضاً أن الغبطة التي هي غايتنا القصوى – حسبما أوضحت – تظهر بدرجة كبيرة في ممارسة هذه الطريقة. وبالفعل الممارسة بحد ذاتها هي ممتعة للغاية. وأستطيع أن أؤكد بأنها أبهج بما لا يقاس من أعظم متعة حسية يمكن تحصيلها عن طريق الحواس الخمس أو العقل. ولا أرغب في إعطاء أي برهان عن صحة هذه الطريقة سوى ما سيحصل عليه الشخص الذي يمارسها. وكلما مارسها الراغب المريد بأناة وانتظام كلما شعر أنه أصبح أكثر رسوخاً في وعي الغبطة.
ونظراً لعناد وتأصّل العادات السيئة فإن الوعي الجسدي يتيقظ من حين إلى آخر ويهاجم بكل تذكاراته الحسية حالة السكينة تلك. ولكن مع الممارسة المنتظمة ولفترات طويلة فبالإمكان أن نضمن لممارسها بأنه سيأتي الوقت الذي به يجد نفسه في حالة من الغبطة الروحية السامية. ولكن يجب أن لا نحاول تصوّر النتائج التي تفضي إليها الطريقة ومن ثم نتوقف عن الممارسة بعد امتحان صغير. النجاح الحقيقي والتقدم الأكيد يلزمهما مراعاة النقاط التالية التي تمس لها الضرورة.
أولاً:  الانتباه الدقيق للموضوع المرغوب تعلـّمه.
ثانياً:  الرغبة الصادقة في التعلـّّم مع روح استطلاع وقـّّادة.
ثالثاً:  المثابرة حتى بلوغ الغاية المرجوّة.
إذا سرنا حتى منتصف الطريق وأهملنا الطريقة بعد ممارسة بسيطة فلن نحصل على النتيجة التي نتوقعها.
من المؤسف جداً أن الناس يصرفون معظم أوقاتهم في تحصيل الحاجيات المادية أو الانهماك في التنظيرات والحوارات العقلية ولكن نادراً ما يحاولون أن يعرفوا ويختبروا بأنفسهم  الحقائق الروحية التي تنعش وتنشط الحياة، بل وتعطي لها معنىً. فالمشاغل والأمور غير الجوهرية والرغبات المحمومة تشغل أذهانهم أكثر من الجهود الموجّهة توجيهاً سليماً في هذا المجال.
منذ سنين عديدة وأنا أمارس الطريقة المتقدّم ذكرها، وفي كل مرة أمارسها أشعر بفرح عظيم  أو حالة من الغبطة الدائمة التي لا يتضاءل زخمها ولا يتوقف سيلها.
يجب أن نضع نصب أعينا أن النفس الروحية هي أسيرة الجسد منذ دهور عديدة وأحقاب مديدة، وقد لا تتحرر في يوم واحد، ولا يمكن للممارسة القصيرة المتقطعة أن تمنح الممارس تلك الغبطة الروحية السامية أو تضمن له السيطرة على الأعضاء الداخلية.  ذلك يستلزم ممارسة جادة ومتأنية لوقت طويل.
ومع ذلك فإن التطبيق الدقيق لهذه الأساليب كفيل باستجلاب الإحساس بالغبطة النقية. وعلى قدر الممارسة يكون الاقتراب من الغبطة. هذه الحالة ليست من خلق أو اختراع أي إنسان، فهي موجودة بذاتها وما علينا سوى الكشف عنها في أعماقنا. والسلام عليكم

تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك

 لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو  Newer Posts
في أسفل الصفحة


No comments:

Post a Comment