Saturday, November 23, 2013

لاهيري ماهاسايا: قواه الخارقة


لاهيري ماهاسايا
 

وفي غفلة من المجتمع ككل، راحت تنشط نهضة روحية في العام 1861 في حي من الأحياء المتوارية من مدينة بنارس. وكما أن من الصعب إخفاء رائحة الورد الزكية هكذا لم يقوَ لاهيري ماهاسايا على إخفاء مجده الروحي وهو يلعب دوره الهادئ كرب أسرة مثالي. وراح المريدون من سائر أرجاء الهند يلتمسون الرحيق الروحي النابع من المعلم المتحرر.

وكان المدير العام لمكتبه، الإنكليزي الجنسية، من القلة الأوائل الذين أدركوا التحول الغريب والفائق في موظفه، فراح يناديه بمودة "السيد المغبوط".

وفي صباح أحد الأيام سأل لاهيري ماهاسايا رئيسه باهتمام ودّي: "سيدي، يبدو أنك حزين، فما الذي يقلقك؟"

أجاب رئيسه: "إن زوجتي في بريطانيا مريضة للغاية، والقلق عليها يمزقني."

فقال لاهيري ماهاسايا: "سوف آتيك ببعض الأخبار عنها." وترك الغرفة وجلس لبعض الوقت في ركن منعزل، ثم عاد إلى رئيسه وقال له مواسياً: "إن زوجتك تتماثل للشفاء وهي الآن تكتب رسالة إليك." ثم اقتبس اليوغي الكلي المعرفة بعض عبارات الرسالة!

وقال الرئيس مندهشاً: "أيها السيد المغبوط، إنني أعلم فعلاً أنك شخص غير عادي، ولكنني لا يمكنني أن أصدق بأنك تستطيع بقوة الإرادة التغلب على الزمان والمكان بهذه الكيفية!"

أخيراً وصلت الرسالة الموعودة، ووجد الرئيس الذاهل أنها لا تتضمن وحسب أخبار شفاء زوجته بل أيضاً نفس العبارات التي رددها له لاهيري ماهاسايا قبل ذلك بأسابيع.

وبعد بضعة شهور حضرت الزوجة إلى الهند. ولدى مقابلة لاهيري ماهاسايا، نظرت إليه باحترام وخاطبته قائلة: "سيدي، لقد شاهدت شكلك منذ شهور، محاطاً بهالة من النور، بجانب فراش مرضي في لندن. وفي تلك اللحظة شفيت تماماً، وأصبحت قادرة على تحمل رحلة المحيط الطويلة إلى الهند."

ويوماً بعد يوم كرّس المعلم الأقدس واحداً أو اثنين من المريدين في علم الكريا يوغا. وبالإضافة لهذه الواجبات الروحية والتزاماته العملية والأسرية، أبدى المعلم العظيم اهتماماً خاصاً بالتربية والتعليم. فقام بتنظيم مجموعات دراسية ولعب دوراً هاماً في تطوير ونمو مدرسة ثانوية كبيرة في حي بنغالاتولا من بنارس. وصارت محاضراته الأسبوعية تعرف باجتماع الغيتا حيث كان يشرح الكتب المقدسة للعديد من الباحثين بشوق عن الحقيقة.

وبهذه النشاطات العديدة والمتنوعة أراد لاهيري ماهاسايا الإجابة على التحدي الاعتيادي المعروف: "بعد الفراغ من إنجاز الأعمال والواجبات الاجتماعية، أين الوقت الذي يمكن تخصيصه للتأمل الروحي بحثاً عن الله؟" فالحياة المتزنة والمنسجمة لرب العائلة الجليل أصبحت مصدر إلهام لآلاف الرجال والنساء. وإذ كان يتقاضى مرتباً متواضعاً فقد عاش بتدبير وقناعة وتواضع، وكان في متناول الجميع، سعيداً في السير على درب الحياة الدنيوية المنضبطة.

وبالرغم من بلوغه أسمى المقامات فقد أظهر لاهيري ماهاسايا احتراماً لسائر الناس بصرف النظر عن استحقاقاتهم المتباينة. وعندما كان مريدوه يحيّونه، كان ينحني بدوره أمامهم. وبتواضع الأطفال كان السيد المبجل يلمس أحياناً أقدام الآخرين ونادراً ما سمح لهم بأن يعاملوه بالمثل، مع أن هذا الاحترام نحو المعلمين الروحيين هو عادة شرقية عريقة.

ومن إحدى المميزات الهامة في حياة لاهيري ماهاسايا كانت منحه تكريس الكريا للناس من كل الأديان. ولم يكن تلاميذه من الهندوس وحسب، بل كان من بين تلاميذه المقربين مسلمون ومسيحيون أيضا. فالمؤمنون بإله واحد ، والمؤمنون بمبدأ الازدواجية (خضوع الكون لمبدأين متعارضين هما الخير والشر)، والذين يعتنقون عقيدة معينة أو لا يعتنقون أي مذهب على الإطلاق، جميعهم كانوا يلقون القبول من المعلم العالمي الذي كان يستقبلهم ويعلمهم دون محاباة. وكان من بين أحد تلاميذه المتقدمين المسلم عبد الغفور خان. وبالرغم من انتماء لاهيري ماهاسايا  إلى طبقة البراهمة – أعلى طبقات المجتمع الهندي – فقد قام بخطوات جريئة لإزالة العوائق والفوارق الطبقية الصارمة التي كانت قائمة في زمنه. وهكذا فقد وجد الباحثون من كل قطاعات المجتمع ملجأ أميناً تحت جناحي المعلم الكلي الحضور. وكجميع أنبياء الله الملهمين فقد أيقظ لاهيري ماهاسايا أملا جديداً في نفوس المنبوذين والمضطهدين اجتماعياً.

وكان المعلم العظيم يقول لتلاميذه: "تذكروا دوماً أنكم لستم مُلكاً لأحد ولا تملكونَ أحداً. ولا تنسوا أنكم ستتركون يوماً ما كل شيء فجأة في هذا العالم. ولذلك من واجبكم التعرف على الله الآن. حضّروا أنفسكم للرحلة الكوكبية القادمة بالإقلاع يومياً بطائرة الإدراك الإلهي. إنكم من قبيل الوهم تبصرون أنفسكم حزمة من اللحم والعظم هي وكرٌ للمتاعب والمشاكل في أحسن الأحوال. تأملوا على الله دون انقطاع لعلكم تدركون سريعاً أنكم الجوهر الروحي اللانهائي المتحرر من كل أنواع التعاسة والشقاء. لا تظلوا سجناء الجسد. استخدموا مفتاح الكريا السرّي وتعلموا الانطلاق في الروح الكوني."

وقد شجع المعلم تلاميذه على اختلاف مشاربهم كي يتمسكوا بالقيم والممارسات الطيبة لأديانهم. وإذ كان يؤكد الطبيعة الشاملة للكريا كطريقة عملية للخلاص فقد ترك لاهيري ماهاسايا لتلاميذه الحرية في التعبير عن حياتهم بما يتناسب مع ظروفهم البيئية والتربوية.

وكان يقول: "يجب على المسلم أن يؤدي فروض عبادته خمس مرات في اليوم، وأن يتأمل الهندوسي عدة مرات في اليوم، وأن يركع المسيحي عدة مرات يومياً ابتهالا لله ثم يقرأ الكتاب المقدس.

وبإدراك حكيم تمكن المعلم من توجيه مريديه في دروبهم المختلفة نحو الله، كل حسب ميوله الذاتية، سواء الشوق الإلهي أو الخدمة والعمل أو اليوغا الكاملة والشاملة. وبالنسبة للراغبين في ترك الدنيا والانخراط في سلك السوامي الرسمي فقد كان المعلم ينصحهم بالتروي والتفكير مليا بما تنطوي عليه حياة النسك من تقشف وصرامة قبل اتخاذ مثل ذلك القرار.  كما نصح المعلم الجليل تلاميذه أن يتحاشوا الحوارات النظرية حول الكتب المقدسة، وكان يقول: "حلـّوا جميع مشاكلكم بالتأمل. استبدلوا التخمينات غير المجدية عن الله بالاتصال الفعلي به. نقـّوا أفكاركم من ركام اللاهوت واسمحوا لمياه الإدراك الإلهي المباشر الشافية بتنقية حياتكم. تناغموا مع الإرشاد الباطني الفاعل، واعلموا أن الصوت الإلهي المقدس لديه الأجوبة الشافية لكل معضلات الحياة. ولئن كانت شطارة الإنسان تورطه في متاعب جمة فإن الله كريم ويمد يد العون لطالبيه.

وفي أحد الأيام تـَبرهَن حضور المعلم الكلي لمجموعة من التلاميذ الذين كانوا يصغون لشرحه البهاغافاد غيتا. فبينما كان يشرح لهم معنى الوعي الإلهي (كوتاستا تشايتانيا) الحالّ في كل الخليقة، شهق لاهيري ماهاسايا فجأة وصاح قائلا: "إنني أغرق في أجسام عديدة قبالة ساحل اليابان."

وفي الصباح التالي قرأ التلاميذ نبأ في إحدى الصحف عن أناس عديدين لقوا حتفهم لدى غرق سفينتهم في اليوم السابق قرب شواطئ اليابان. وكثيراً ما كان يحس تلاميذ لاهيري ماهاسايا البعيدون عنه بقربه منهم ووجوده معهم. وكان يقول مواسياً للذين لم يتمكنوا من الحضور لرؤيته: "إنني دائماً مع الذين يمارسون الكريا. سأوجهكم إلى البيت الكوني بواسطة إدراككم المتزايد بالله." وقد قال سري بهوبندرانات سانيال، أحد التلاميذ المتقدمين للمعلم العظيم، أنه إبان سني شبابه (1892) لم يتمكن من السفر إلى بنارس، فابتهل للمعلم طلباً للإرشاد الروحي، فظهر لاهيري ماهاسايا لبهوبندرانات في الحلم وكرّسه روحياً. بعد ذلك ذهب الفتى إلى بنارس وطلب تكريساً من المعلم، فأجابه لاهيري ماهاسايا: "ولكني كرّستك في الحلم فعلاً!"

وكان إن أهمل أحد التلاميذ واجباته الدنيوية يقوم المعلم بتصحيحه وتأديبه برقة ولطف.

وقال لي سري يوكتسوار ذات مرة: "لقد كانت كلمات لاهيري ماهاسايا لطيفة وشافية، حتى عندما كان يضطر أحياناً للإشارة علانية إلى أخطاء أحد التلاميذ." ثم أضاف متنهداً: "لم يترك أي من التلاميذ حلقة معلمنا." وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك، لكنني في نفس الوقت أكدت لسري يوكتسوار صادقاً أن كل كلمة من كلماته – سواء قاسية أم لينة – كان لها وقع الموسيقى العذبة على أذني.

وقد صنّف لاهيري ماهاسايا الكريا تصنيفاً دقيقاً ضمن أربع درجات متتالية لكل منها تكريس خاص. ولم يمنح الدرجات الثلاث العليا إلا عندما يكون المريد قد أظهر تقدماً روحياً محسوساً. وفي إحدى المرات تذمر أحد التلاميذ معتبراً أن مستواه الروحي لم يتم تقييمه تقييماً صحيحاً وأنه لم يحصل على ما يستحق من التكريس، وقال للمعلم: "سيدي، إنني بكل تأكيد مؤهل لتلقي الدرجة الثانية."

وفي تلك اللحظة فـُتح الباب ودخل تلميذ متواضع يدعى برندا بهاغات وكان ساعي بريد في بنارس. فابتسم له المعلم بمودة وخاطبه قائلا:

"تعالَ يا برندا  اجلس بجانبي. قل لي هل أنت مستعد لتلقي الدرجة الثانية من الكريا؟"

وضم برندا الصغير يديه في تضرع وقال: "أيها السيد الملائكي. أرجوك أن لا تعطيني تكريسات أخرى، إذ لا يمكنني استيعاب تعليمات أرفع. لقد جئتك اليوم ملتمسا بركتك. فالتكريس الأول من الكريا غمرني بالنشوة الروحية بحيث لم أعد قادراً على توزيع الرسائل!"

فقال لاهيري ماهاسايا: "إن برندا يسبح فعلا في بحر الروح."

وما أن سمع التلميذ الآخر كلمات لاهيري ماهاسايا تلك حتى خفض رأسه قائلا: "يا سيدي، لقد أدركت الآن أنني عامل مهمل متهاون  يُعْزي سبب فشله إلى الأدوات التي يستعملها."

وقد اكتسب ساعي البريد الذي لم يكن متعلماً معرفة بديهية كبيرة بفضل ممارسته للكريا جعلته مرجعا للمعرفة بحيث كان العلماء يستشيرونه ويأخذون رأيه في الكثير من المسائل المعقدة. وهكذا فقد حصل برندا الطيب القلب الذي لم يكن متعلماً أصلا على شهرة واسعة بين جمهور العلماء والمثقفين.

وبالإضافة إلى تلاميذ لاهيري مهاساسيا العديدين من بنارس فقد كان مئات من التلاميذ الآخرين يفدون إليه من مناطق الهند النائية.  وفي عدة مناسبات ذهب المعلم العظيم إلى البنغال في زيارة لحمويّ ولديه. وإذ تقدست أرض البنغال بوجوده فقد ضمت العديد من مجموعات الكريا الصغيرة، وعلى الأخص في مقاطعتي كريشنا غار وبشنوبور، حيث يحتفظ إلى الآن العديد من المريدين الصامتين بتيار التأمل الروحي غير المنظور جارياً.

ومن بين العديد من القديسين الذين حصلوا على تكريس الكريا من لاهيري ماهاسايا يمكن أن نذكر المبجل سوامي بهاسكارانندا ساراسواتي من بنارس، وناسك ديوغار العالي القدر بالانندا برهماتشاري. وفي فترة ما عمل لاهيري ماهاسايا معلماً خاصاً لابن مهراجا بنارس اسواري نارايان سنها بهادور. وإذ أدرك المهراجا وابنه السمو الروحي لهذا المعلم فقد طلبا منه أن يكرسهما في الكريا، مثلما فعل المهراجا جوتندرا موهان تاكور.

وقد رغب عدد من تلاميذ لاهيري ماهاسايا من ذوي المناصب والنفوذ في توسيع دائرة الكريا بالإعلان عنها، لكن المعلم رفض السماح لهم بذلك. غير أن أحد المريدين الذي كان الطبيب الملكي لأمير بنارس شرع بمجهود منظم للإعلان عن المعلم بإسم كاشي بابا أي سيد بنارس الجليل، لكن المعلم منعه أيضاً قائلاً:

"دع أريج وردة الكريا يتضوع بكيفية طبيعية. إن بذور الكريا ستتأصل في تربة القلوب الخصبة روحياً."

ومع أن المعلم لم يستعمل أسلوب التبشير بالطريقة العصرية المنظمة أو بالنشر والإعلان، لكنه كان يدرك أن قوة رسالته ستنطلق كالطوفان الذي لا يقاوم وتغمر بقوتها عقول البشر. ونفوس المريدين التي تتطهر وتتجدد هي البرهان الأكيد على حيوية وفاعلية الكريا يوغا الخالدة.

وفي عام 1886، أي بعد خمسة وعشرين عاماً من تكريسه في رانخيت، أحيل لاهيري ماهاسايا على التقاعد. وإذ أصبح وجوده متاحاً للتلاميذ أثناء النهار فقد ازداد عدد مريديه. وكان المعلم العظيم يجلس صامتاً معظم الوقت متربعاً في جلسة اللوتس الهادئة. ونادراً ما كان يترك غرفة جلوسه حتى ليتمشى أو للذهاب إلى ركن آخر من المنزل. وكان يفد إليه سيل هادئ وغير منقطع من الأتباع للتبرك برؤيته.

ولدهشة الآخرين كان مظهر لاهيري ماهاسايا الجسدي ينبئ عن حالة فائقة تتمثل في عدم تنفسه وعدم نومه وتوقف نبضه وضربات قلبه، وفي عينيه الهادئتين اللتين لا ترمشان لساعات طويلة، مع هالة طوباوية مجيدة من السلام الروحي العميق. ولم يغادره زائر واحد دون الحصول على سمو روحي. وكان كل من يأتي لزيارته يشعر أنه حصل بالفعل على البركة الصامتة لواحد من أهل الله الصادقين.

وسمح المعلم لتلميذه بنشانون بهاتشاتشاريا كي يفتتح في كلكتا معهد آريا لتعليم اليوغا. وقد قام المركز بتوزيع بعض الأدوية اليوغية المستخرجة من الأعشاب الطبية إضافة إلى أولى طبعات البهاغافاد غيتا بالبنغالية بسعر معقول. وقد وجدتْ هذه الطبعة الشعبية بالهندية والبنغالية طريقها إلى آلاف البيوت.

وطبقاً للتقليد القديم أعطى لاهيري ماهاسايا للناس زيت النيم لشفاء الكثير من الأمراض. عندما كان المعلم يطلب من أحد التلاميذ تقطير الزيت كانت العملية تتم بسهولة. ولكن إن حاول شخص آخر القيام بالتقطير كان يصادف صعوبات غريبة، إذ كان الزيت يتبخر كلياً أثناء العملية. ويستدل من ذلك على أن بركة المعلم كانت مكوّناً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه.

وكالعديد من الأنبياء العظام فلم يدوّن لاهيري ماهاسايا نفسه كتباً بل درب تلاميذ عديدين من خلال شروحاته للنصوص المقدسة. وقد كتب صديقي المرحوم سري أنانندا موهان لاهيري، حفيد المعلم، ما يلي:

"إن البهاغافاد غيتا وفصول أخرى من ملحمة المهابهاراتا تتضمن عددا من الأمور الصعبة الفهم. ونحن إن تركنا تلك النقاط المعقدة دون نقاش فلا نجد فيها سوى قصص أسطورية غريبة يخطئ الإنسان فهمها بسهولة. وإن تركت بدون شرح فإننا نفقد علماً حفظه الشرق بصبر فوق طاقة البشر على مدى آلاف السنين من التجريب والاختبار. لقد أتى لاهيري ماهاسايا بمعرفة متحررة من المجاز،  إذ سلط الضوء على جوهر الدين الفعلي الذي تم تغليفه وحجبه بذكاء عن الأنظار خلف ستار من الأحاجي والصور النصوصية. وطقوس العبادة الفيدية التي كانت عبارة عن شعوذات وكلمات لا معنى لها أثبت المعلم أنها مليئة بالفوائد العلمية.

"إننا نعلم أن الإنسان غالباً ما يضعف أمام الشهوات الشريرة، لكن هذه الشهوات تصبح واهنة واهية ولا يحس الإنسان برغبة الانغماس فيها عندما يتذوق لذة روحية أعظم ويختبر غبطة سامية ومستديمة عن طريق ممارسة الكريا يوغا.  وهنا نجد أن الزهد في الملذات الجسدية ومقاومة الإغراءات السفلى يتزامنان مع امتلاك النشوة الروحية. وبدون ذلك لا جدوى للنواهي وقواعد السلوك التي لا تنطوي إلا على السلبيات.

"إن بحر القوى الكونية اللانهائي يكمن خلف كل المظاهر والظواهر الطبيعية. ورغبتنا في النشاطات الدنيوية تقتل فينا الشعور بالدهشة الروحية. وحيث يبين لنا العلم كيفية استخدام قوى الطبيعة فإننا نعجز عن إدراك الحياة العظمى خلف كل الصور والمسميات. واعتيادنا على الطبيعة ولـّد فينا الاحتقار لأسرارها النهائية. فعلاقتنا بالطبيعة هي علاقة عمل. ونحن نضايقها – إن صح التعبير – طمعاً في اكتشاف الطرق التي يمكن بواسطتها إرغامها على خدمة أغراضنا الذاتية. ونستخدم قواها التي لا يزال مصدرها مجهولا بالنسبة لنا. وعلاقتنا بالطبيعة من الناحية العلمية هي أشبه ما تكون بعلاقة الرجل المتعجرف مع خادمه. وبمعنى فلسفي هي كالأسير في قفص الاتهام. فنحن نستجوبها ونتحداها ونمحص دليلها ومعطياتها بدقة في موازين بشرية لا تستطيع قياس قيمها الخفية. ومن جهة أخرى، حينما تكون النفس على توافق واتصال بقوة أسمى فإن الطبيعة تمتثل تلقائيا لإرادة الإنسان دون ضغط أو إجبار. وهذه السيادة العفوية على الطبيعة يدعوها الشخص المادي غير المتنور معجزة.

"إن حياة لاهيري ماهاسايا هي قدوة ونبراس للطامحين روحيا، وقد غيّرت الفكرة الخاطئة عن اليوغا بأنها ممارسة غامضة. إذ كل إنسان يستطيع بواسطة الكريا يوغا فهم علاقته الصحية والصحيحة بالطبيعة والشعور بالاحترام الروحي لكل الظواهر سواء كانت غامضة أم مألوفة، بالرغم من واقعية العلم الطبيعي. ويجب أن ندرك أن ما كان غامضاً منذ ألف عام لم يعد كذلك الآن، وما هو غامض اليوم قد يصبح مفهوماً بعد بضعة سنين من الآن.

"إن علم الكريا هو أزلي أبدي ودقيق كعلم الرياضيات. وكمبادئ الجمع والطرح البسيطة، فان قانون الكريا يعصى على الفناء.  فإن أحرقت كل كتب الرياضيات يبقى مع ذلك أصحاب العقول المنطقية قادرين على اكتشاف حقائقها في كل زمان ومكان. وبالمثل، فإن تم إخفاء كل كتب اليوغا، فإن قواعدها الأساسية ستعاود الظهور حينما يظهر يوغي صادق أصيل راسخ في الحب الإلهي النقي ومتبحر في العلم الصحيح.

ومثلما يعتبر باباجي أحد أعظم التجسدات الإلهية على الإطلاق (مهافاتار)، ويعتبر سري يوكتسوار بحق تجسدا للحكمة (جنانافاتار)، هكذا يمكننا القول بأن لاهيري ماهاسايا هو قطب اليوغا المتنور ومرجعها الأعظم (يوغافاتار). لقد تمكن المعلم العظيم من رفع المستوى الروحي للمجتمع من الناحيتين الكمية والكيفية. ونظراً لقدرته الفائقة على رفع مستوى تلاميذه المقربين إلى ذروة الكمال، ونشره للحقيقة بين الجماهير على نطاق واسع، يُعد لاهيري ماهاسايا أحد مخلصي الإنسانية.

ويكمن تفرده كنبي في تأكيده العملي على طريقة محددة وواضحة: الكريا. وبذلك فقد فتح ولأول مرة أبواب الحرية لكافة الناس. وبالإضافة إلى معجزات حياته الخاصة فقد بلغ هذا القطب الروحي الأعظم قمة العجائب بتبسيطه الطرق والأساليب اليوغية القديمة المعقدة وجعلها سهلة الممارسة، فعّالة، وفي متناول الإنسان العادي.

أما بخصوص المعجزات فغالبا ما كان لاهيري ماهاسايا يقول:

"القوانين الشفافة غير المعروفة عادة لعامة الناس ينبغي عدم بحثها علناً أو نشرها دون تبصر."

 فإن كنتُ قد خالفتُ هذا التنبيه على هذه الصفحات فلأنه أعطاني تأكيداً داخلياً. وفي ترجمتي لسيرة باباجي ولاهيري ماهاسايا وسري يوكتسوار فقد رأيت أن من الملائم حذف بعض القصص المعجزة التي يتعذر تضمينها هذا الكتاب بدون شروح مستوفية للفلسفة العويصة.

وكيوغي ورب عائلة فقد أتى لاهيري ماهاسايا برسالة عملية ملائمة لمقتضيات العصر الحديث. فالظروف الاقتصادية والدينية للهند القديمة لم تعد متوفرة في هذا العصر. ولذلك لم يشجع المعلم النمط القديم لليوغي كمتقشف يتجول بوعاء تسول.  وشجع اليوغي العصري كي يعمل ليكسب لقمة عيشه حتى لا يكون عالة على مجتمع مرهق، وأن يمارس اليوغا في خلوة بيته.

وقد دعم لاهيري ماهاسايا هذه النصيحة بأسلوب حياته الخاص كقدوة للآخرين. وقد كان بحق أفضل وأكمل نموذج لليوغي الحديث. وطريقة حياته التي رسمها له باباجي قصد منها أن تكون نبراساً لليوغيين الطامحين، لا في الشرق وحسب، بل في الغرب أيضا.

أمل جديد لأناس يرغبون في تجديد حياتهم! إذ أعلن هذا اليوغي العظيم أن "الاتحاد الإلهي يمكن تحقيقه بالمجهود الذاتي، ولا يعتمد على المعتقدات اللاهوتية أو على إرادة مستبدة لدكتاتور كوني."

وباستخدام مفتاح الكريا، فإن الذين لا يمكنهم الإيمان بإلوهية أي إنسان، سيبصرون في النهاية الإلوهية الكاملة لأنفسهم.
برمهنسا يوغانندا 
مذكرات يوغي: السيرة الذاتية Autobiography of a Yogi (المعروفة أيضاً بـ فلسفة الهند في سيرة يوغي)
 
المزيد عن لاهيري ماهاسايا وعن تعاليم المعلم برمهنسا يوغانندا 
في موقع سويدا يوغا أو صفحة برمهنسا يوغانندا في فيسبوك

 http://www.facebook.com

تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك

لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو Newer Posts

No comments:

Post a Comment