Saturday, November 23, 2013

لاهيري ماهاسايا: لقائه بباجي



لاهيري ماهاسايا
"إن لقاء باباجي بـ لاهيري ماهاسايا للمرة الأولى قصة تخلب الألباب وتأخذ بمجامع القلوب. وهي إحدى القصص القليلة التي تعطينا لمحة مفصلة عن المعلم الخالد باباجي."
تلك العبارة كانت مقدمة لحكاية عجيبة رواها لي سوامي كيبالانندا، وقد سُحرت لدى سماعها للمرة الأولى. وكثيراً ما كنت أطلب بتودد من معلمي اللطيف في السنسكريتية كي يعيد تلاوة القصة التي سمعتها من سري يوكتسوار فيما بعد بنفس الألفاظ تقريبا. فتلميذا لاهيري ماهاسايا سمعا هذه القصة المدهشة مباشرة من شفتي معلمهما الذي قال:
"تم لقائي الأول مع باباجي في الثالثة والثلاثين من عمري. ففي خريف عام 1861 كنت أعمل في دانابور كمحاسب حكومي في قسم الهندسة الحربية. وذات صباح استدعاني مدير المكتب وقال: ’لاهيري، لقد وردت برقية على التو من المقر الرئيسي تستدعي نقلك إلى رانخيت حيث يتم الآن إنشاء مركز للجيش.
"وانطلقت مع مساعد واحد في رحلة طولها 500 ميل. وبعد سفر في عربة تجرها الخيول وصلنا بعد ثلاثين يوماً موقع رانخيت 
"لم تكن أعمالي المكتبية مجهدة، فتمكنت من صرف ساعات طويلة في التجول وسط التلال البديعة. وبلغني خبر مفاده أن قديسين عظماء قد باركوا المكان بوجودهم فأحسست برغبة قوية في لقائهم. وخلال إحدى الجولات من بعد ظهر أحد الأيام دُهشت لسماع صوت بعيد يناديني، فتابعت تسلقي النشيط لجبل دورنغيري. وأحسست ببعض القلق حينما خطر ببالي بأنني قد لا أستطيع العودة قبل أن يحل الظلام فوق الغابة.
"أخيرا بلغت بقعة خالية من الأشجار تضم جوانبها بعض الكهوف، وعلى أحد جوانبها الصخرية وقف شاب يبتسم ويمد يده مرحبا بي. وقد لاحظت باندهاش أنه باستثناء شعره النحاسي اللون يشبهني إلى حد كبير.
"وخاطبني القديس بحنان بالهندية قائلا: ’ها قدً أتيت يا لاهيري! استرح في هذا الكهف فأنا الذي استدعاك إلى هنا.‘
"ودخلت غاراً نظيفاً به عدة بطانيات صوفية وبضع أوعية للماء. فأشار اليوغي إلى بطانية مطوية في أحد الأركان وقال: ’لاهيري، هل تذكر ذلك المقعد الصوفي؟‘
"ولما كنت ذاهلا بفعل مغامرتي الغريبة أجبته: ’لا يا سيدي لا أذكره، ويجب أن أغادر المكان الآن قبل حلول الظلام لأن هناك أعمالاً مكتبية ينبغي إنجازها في الصباح.‘
"وأجابني القديس الغامض بالإنكليزية:
 The office was brought for you, and not you for the office 
(لقد جيء بالمكتب من أجلك ولم يؤتى بك من أجل المكتب.)
"وذهلت لأن أجد ناسك الغابة هذا لا يتكلم الإنكليزية وحسب بل يفسر أيضاً أقوال السيد المسيح. وقد أضاف قائلا: ’أرى أن برقيتي قد سرى مفعولها.‘
"وبدت ملاحظة اليوغي غير مفهومة لي، فطلبت منه الإيضاح فأجاب: ’أقصد البرقية التي أتت بك إلى هذه المناطق النائية. فأنا الذي أوحى بصمت إلى عقل رئيسك كي ينقلك إلى رانخيت. فعندما يحس الإنسان بوحدته مع سائر البشرية تصبح كل العقول محطات إرسال يمكنه أن يستعملها بالإرادة.‘ ثم أضاف: ’لاهيري، بالتأكيد هذه المغارة ليست غريبة عليك ولا بد أنك تعرفها.‘
"وإذ بقيت صامتاً بفعل الحيرة والذهول، دنا مني القديس وقرع جبهتي بلطف. وعلى أثر لمسته اكتسح دماغي تيار عجيب فأطلق بذور التذكارات الحلوة لحياتي السابقة، فقلت وقد خنقتني دموع الفرح: ’نعم أتذكـّر! فأنت هو معلمي الحبيب باباجي الذي كان وما زال حارسي الأمين وكنزي الثمين. إن صور الماضي تبدو لعقلي بكل جلاء ووضوح. فهنا في هذه المغارة بالذات صرفت سنوات عديدة من تجسدي السابق.‘
"وإذ غمرني فيض التذكارات التي يصعب وصفها، طوقت قدمي معلمي بذراعيي وضممتهما إلى صدري والدمع ينهمر من عينيّ"
"ورنّ صوت باباجي بنغمة الحب السماوي وهو يقول: ’لأكثر من ثلاثين عاماً وأنا في انتظار عودتك إليّ!  لقد انزلقتَ واختفيتَ في خضم الأمواج الصاخبة للحياة بعد الموت. وقد لامستك العصا السحرية لكرماك فمضيت! ومع أنني تواريت عن أنظارك لكنك لم تختفِ عن بصري لحظة واحدة! لقد تعقبتك فوق البحر الكوكبي المضيء حيث يسبح الملائكة الممجدون.  ففي الظلام والعاصفة والثوَران والاضطراب والضوء تتبعتك وحرستك مثلما تحرس أم الطائر صغيرها. وإذ عشت شهورك التكوينية كجنين في الرحم ثم خرجت إلى عالم النور وليداً كانت عيناي ترعاك. وحتى عندما كنت تتربع في وضع اللوتس وتغمر جسمك الصغير في رمال غورني أثناء طفولتك كنت قريباً منك ولكنك لم تتبين حضوري! لقد رعيتك بصبر وأناة شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام وأنا في انتظار ساعة الرحمن هذه. لقد جمع الله شملنا وها أنت الآن معي. هاهي مغارتك القديمة التي أحببتـَها كثيراً. انظر كيف احتفظت بها نظيفة ومرتبة في انتظار عودتك. وتلك هي بطانية التأمل المباركة التي كنت تتربع عليها لتملأ بحب ونعيم الله قلبك المتسع. وهذا هو الطاس الذي غالباً ما كنت ترتشف منه الشراب اللذيذ الذي كنت أعده لك! انظر كيف احتفظت بالكوب النحاسي نظيفاً ولامعاً لتشرب منه ثانية. فيا حبيب القلب هل تدرك الآن كل هذا؟‘
"وهمهمت بعبارات متهدجة: ’ماذا يمكنني أن أقول يا سيدي؟ وأين سمع الإنسان بمثل هذا الحب الخالد الذي يتحدى الفناء؟‘ ثم تطلعتُ بشوق ما بعده شوق وبفرح لا يوصف إلى كنزي الأبدي: معلمي الروحي ومرشدي الأعظم في الحياة والموت.‘
"واستطرد باباجي قائلا: ’لاهيري، إنك في حاجة إلى تطهير. اشرب الزيت الذي في الإناء وارقد على ضفة النهر.‘ وابتسمت وقد أدركت على الفور أن حكمة باباجي العملية حاضرة على الدوام.
"أطعت تعليمات المعلم.  ومع أن ليل الهملايا الشديد البرودة كان وشيك الحلول، لكنني أحسست بإشعاع دافئ ومريح ينبض في خلايا جسمي، فتعجبت وتساءلت عما إذا كان الزيت المجهول قم تم شحنه بحرارة كونية!
"ولولتْ الرياح العاتية حولي في ظلمة الليل وراحت تصرخ متحدية، وبين الحين والآخر ارتطمت الأمواج الصغيرة الباردة لنهر الغوغاش بجسمي الممدد على الشاطئ الصخري. وزمجرت النمور على مقربة مني لكن قلبي ظل متحرراً من الخوف. فالقوة الإشعاعية التي تولدت حديثاً داخل كياني حملت معها تأكيداً قاطعاً بحماية لا يمكن اقتحامها إطلاقاً. ومرت الساعات مسرعة ودارت في خاطري التذكارات الغابرة لحياة أخرى وصاغت ذاتها في هذه التجربة المشرقة للقائي مع معلمي الأقدس.
"وانقطعت تأملاتي المنفردة بوقع أقدام تدنو مني. ووسط الظلام امتدت يد إنسان برفق وساعدتني في الوقوف على قدمي، ثم ناولتني بعض الملابس الجافة.
"وقال رفيقي: ’تعالَ يا أخي، فالمعلم في انتظارك.‘
"اقتادني الرفيق عبر الغابة، ولما بلغنا منعطفاً في الطريق لمع بغتة عن بُعد نورٌ وهاج غير متقطع، أضاء عتمة الليل، فقلت متسائلا: ’ أيجوز أن يكون ذلك شروق الشمس؟ بكل تأكيد لم ينقض الليل كله بعد؟!‘
"وضحك دليلي ضحكة لطيفة وهو يقول: ’نحن الآن في منتصف الليل، والضوء الذي تراه هناك هو بريق لقصر ذهبي جسّده هذه الليلة باباجي الذي لا نظير له. ففي الماضي البعيد أعربت ذات مرة عن رغبة في الاستمتاع بمحاسن قصر، والآن يحقق معلمنا أمنيتك ويحررك من قيود الكارما. وهذا القصر الفخم سيشهد الليلة تكريسك في الكريا يوغا، وسوف ينشد إخوانك الحاضرون أناشيد الترحيب بك والاحتفال بانقضاء مدة غربتك. انظر جيداً!‘
"لقد ظهر أمامنا قصر منيف وفسيح من الذهب المتألق، يكاد بريقه اللامع يخطف البصر، وقد زُيّن بجواهر لا حصر لها. وهذا القصر أقيم وسط بساتين وحدائق غنّاء وقد انعكست صورته في البُرك الهادئة فبدا غاية في الروعة والإبداع الذي لا نظير له. وكانت الممرات المقنطرة مرصعة بدقة فائقة بأحجار كريمة كبيرة الحجم من ألماس وياقوت أزرق وزمرد. وقد وقف مريدون بوجوه ملائكية عند بوابات تتألق بحمرة العقيق.
"سرتُ خلف رفيقي إلى بهو استقبال فسيح، وكانت روائح البخور والورد تعطر الهواء والمصابيح الخافتة تلقي أضواء متعددة الألوان، بينما كانت مجموعات صغيرة من المريدين، بعضهم ببشرة بيضاء وبعضهم ببشرة سمراء ترتل بهدوء أو تجلس في وضع التأمل مستغرقة في سلام باطني، وقد غمر الجو فرحٌ شامل.
"وعندما أطلقت عبارات الدهشة ابتسم دليلي بمودة وقال: ’متع عينيك وتلذذ بالروعة الفنية الفائقة لهذا القصر الذي جيء به إلى هذا الوجود احتفاءً بك.‘
"وقلت: ’يا أخي، إن جمال هذا البناء يفوق حد الخيال البشري. بالله أخبرني عن سره.‘
"وشعّت عينا رفيقي السوداوان ببريق الحكمة وأجابني قائلا: ’بكل سرور. وبالواقع لا يوجد غموض حول تجسيد هذا القصر، لأن الكون بأسره هو فكر متجسد للخالق. وهذه الكرة الأرضية الترابية الثقيلة السابحة في الفضاء هي أيضا حلم من أحلام الله الذي صنع كل شيء من جوهر عقله مثلما ينسج الإنسان في وعيه الحالم كوناً مع مخلوقاته ويبث فيه الحيوية والنشاط.
" ’لقد خلق الله الأرض أولاً كفكرة ثم استحثها فأتى النشاط الذري إلى الوجود. ثم نسّق ذرات هذه الكرة الصلبة التي تتماسك جزيئاتها بقوة إرادته. وحينما يسحب الله إرادته منها ستتحول جميع الذرات التي تتكون منها الأرض إلى نشاط، والنشاط سيتحول إلى وعي فتتلاشى عندئذ فكرة الأرض من عالم المادة.
" ’إن مادة الحلم تتماسك بفعل العقل الباطن للنائم. وعند الاستيقاظ ينسحب ذلك الفكر القابض فينحل الحلم مع عناصره. الشخص يغمض عينيه ويخلق عالماً من الأحلام يهدمه دون مجهود فور يقظته. وهكذا فهو يقتفي النموذج الإلهي الأصلي. وبالمثل فهو عندما يستيقظ في الوعي الكوني يهدم دون عناء أوهام الكوني الحلمي.
" ’وبتوحيد ذاته مع الإرادة الكلية القادرة على عمل كل شيء يستطيع باباجي استحضار ذرات العناصر ويطلب منها أن تتجمع وتتخذ الشكل الذي يريده. فهذا القصر الذهبي الذي تم تجسيده فورياً هو حقيقي بقدر ما هي الأرض حقيقية. لقد أبدع باباجي هذا الصرح الشامخ ويحتفظ بذراته متماسكة بقوة إرادته، بنفس الكيفية التي خلق الله بواسطتها هذه الأرض ويبقيها متماسكة بإرادته.‘ ثم أردف قائلا: ’وحينما يؤدي هذا البناء الغرض الذي من أجله وُجد سيقوم باباجي بتفكيك عناصره!‘
"وإذ بقيت صامتاً بفعل الدهشة، قال دليلي مشيراً إلى القصر: ’إن هذا القصر المتألق والمزدان بالجواهر والدرر لم يتم تشييده بمجهود بشري، وذهبه وجواهره لم يتم استخراجها بعناء من المناجم، ومع ذلك فهو قائم برسوخ وثبات كتحدٍ جبار للإنسان. فكل من يدرك ذاته أنه ابن الله مثلما يدرك باباجي يمكنه بلوغ أي هدف بفضل القوى اللامتناهية الكامنة في داخله. إن الحجر العادي يحتوي على قوى ذرية هائلة، وبالمثل فإن أقل البشر شأناً يمتلك طاقات إلهية هائلة.
" والتقط الحكيم من مائدة قريبة مزهرية بديعة ذات قبضة مرصعة بالألماس المتوهج وقال: ’لقد أبدع سيدنا العظيم باباجي هذا القصر بتكثيف أعداد لا تحصى من الأشعة الكونية الطليقة. ألمس بيدك هذه المزهرية وماساتها وستجد أنها تجتاز بنجاح كل الاختبارات الحسية.‘
"تفحصت المزهرية وكانت جواهرها تصلح لأن تكون من ضمن كنوز الملوك. ثم مررت بيدي فوق جدران البهو الناعمة الموشاة بالذهب المشع، وقد غمر الرضا العميق عقلي وأحاسيسي. وأحسست أن رغبة متوارية في طيات وعيي الباطن من حيوات سابقة قد تحققت وانطفأت في نفس الوقت.
"بعد ذلك قادني رفيقي الجليل داخل أقواس وممرات بديعة الزخارف إلى عدد من الحجرات المفروشة بكيفية فاخرة تليق بقصر إمبراطوري. ثم دخلنا بهواً فسيحا في وسطه عرش ذهبي مغطى بجواهر نادرة تشع مزيجاً من ألوان متألقة. وهناك في وضع اللوتس كان يتربع العالي الشأن، ذو المقام الأسمى باباجي، فجثوت عند قدميه فوق الأرض اللامعة. وكانت عيناه تلمعان كإحدى ياقوتاته. وقد خاطبني قائلا: ’لاهيري، هل ما زلت تتلذذ برغباتك الحالمة لقصر ذهبي؟ استيقظ! فكل أنواع عطشك الأرضي هي الآن على وشك الارتواء الأبدي!‘ ثم تمتم ببعض كلمات غامضة من البركة وقال: ’انهض يا بني وتقبّل تكريسك لملكوت الله عن طريق الكريا يوغا.‘
"ومد باباجي يده فاندلع منها لهب نار قربانية (هوما) محاطة بالثمار والورود، وقد حصلت على الطريقة اليوغية المحرِّرة أمام هذا المذبح المتقد.
"تمت الطقوس في ساعات الفجر الباكرة وقد كنت في نشوة روحية عارمة فلم أشعر بحاجة إلى النوم. وتجولت حول القصر الزاخر بالكنوز النفيسة والتحف الفنية الرائعة. وعندما تمشيت في الحدائق البهيجة لاحظت بالقرب منها نفس الكهوف والصخور الجبلية الجرداء ذات الحواف الناتئة التي لم تكن مجاورة لمبنى عظيم أو أحواض الزهور الناضرة.
" دخلت ثانية القصر المتوهج بشكل مدهش في ضوء شمس الهملايا الباردة وتوجهت إلى معلمي الذي كان لا يزال متربعاً على عرشه ومحاطاً بالعديد من المريدين الهادئين، فخاطبني قائلا:
" ’لاهيري، إنك جائع‘ ثم أضاف: ’أغمض عينيك.‘
"أغمضتُ عينيّ ثم فتحتهما فوجدت وللعجب أن القصر الفتـّان بحدائقه الغناء قد اختفى، في حين كان جسمي وجسم باباجي وأجسام التلاميذ تجلس فوق الأرض الجرداء في نفس البقعة التي كان القصر المتلاشي قائم فوقها، ليس بعيداً عن مداخل الكهوف الصخرية المغمورة بنور الشمس. وتذكرتُ ما قاله دليلي من أن عناصر القصر ستتفكك وستعود ذراته المحبوسة إلى الجوهر العقلي الذي صيغ منه. ومع أنني دهشت لهذا التغير المفاجئ لكنني تطلعت بثقة إلى معلمي دون أن أعرف ما سأتوقعه في ذلك اليوم المليء بالمفاجآت العجيبة.
"وقال باباجي موضحاً: ’لقد تحقق الغرض الذي من أجله تم تجسيد القصر.‘ ثم رفع من الأرض إناءً من الفخار وقال: ’ضع يدك في الإناء وستجد ما تشتهيه من طعام.‘
"وما أن لمست الوعاء الفارغ الواسع حتى ظهرت أرغفة خبز اللوتشي المقلية بالزبدة والطعام المطيّب ببهار الكاري مع قطع الحلوى، فأكلت وقد لاحظت أن الوعاء ظل دائماً مملوءاً. بعد ذلك تطلعت حولي بحثا عن الماء فأشار معلمي إلى نفس الوعاء الذي أمامي، فمددت يدي فإذا بالطعام الموجود بداخله قد اختفى بكيفية عجيبة وقد حل الماء محله. فقال باباجي: ’قلائل من البشر يدركون أن مملكة السماء كفيلة بسد الحاجيات الدنيوية لأنها تشمل فيما تشمل المملكة الأرضية، لكن هذه الأخيرة لا تشمل جوهر الحقيقة بسبب طبيعتها الوهمية.‘
"وابتسمت لذكريات القصر المختفي وقلت لمعلمي: ’يا سيدي الحبيب لقد برهنت لي في الليلة الماضية عن الصلة الجمالية الوثيقة بين السماء والأرض! ومن المؤكد أن أي يوغي عادي لم يحصل على تكريس في أسرار الروح الأسمى في جو أكثر روعة وإجلالاً!‘ ثم ألقيت نظرة هادئة على المنظر الحالي وقد بدا التباين في غاية الوضوح. فالأرض الجرداء والسقف السماوي والكهوف التي توفر مأوى بدائياً، كلها بدت خلفية طبيعية للقديسين الملائكيين من حولي.
"جلست بعد ظهر ذلك اليوم فوق بطانيتي التي باركتها روابط مقدسة لمدركات من حياة سابقة، فاقترب مني معلمي الأقدس ومرر يده فوق جبيني فدخلت في حالة النشوة الربانية العظمى (نيربيكالبا صمادهي) وبقيت سابحاً في غبطتها دون انقطاع لسبعة أيام بلياليها. وقد اخترقت طبقات معرفة الذات المتراكبة ونفذت إلى جوهر الحقيقة الحية حيث تتلاشى كافة الحدود الوهمية، ورسختْ روحي رسوخاً كاملاً على مذبح الروح الكوني الخالد. وفي اليوم الثامن وقعت على قدمي معلمي وتوسلت له أن يبقيني بقربه على الدوام في هذه البرية المقدسة.
"وضمّني باباجي إلى صدره قائلا: ’يا ابني، في هذا التجسد يجب أن تلعب دورك بالقرب من الجماهير وأمام أعينهم. فأنت قد بوركت بالتأمل المنفرد قبل ولادتك بحيوات عديدة. ومن واجبك الآن الاختلاط بالناس. وهناك سبب فعلي لعدم لقائك بي هذه المرة قبل أن تصبح رجلا متزوجاً وتتحمل مسؤوليات عائلية وعملية متواضعة. فدع جانباً فكرة الالتحاق بجماعتنا المحجوبة في الهملايا لأن حياتك مقرر لها أن تكون بين سكان المدن كرب أسرة ويوغي مثالي.‘
"واستطرد معلمي قائلاً: ’إن توسلات العديد من الرجال والنساء الحيارى في العالم لم تقع على مسامع العظماء دون جدوى، وقد وقع الاختيار عليك لكي تأتي بالعزاء الروحي عن طريق الكريا يوغا لمجموعات كبيرة من الباحثين بجد وإخلاص عن الحقيقة. فملايين البشر الذين يرزحون تحت أعباء ثقيلة من ارتباطات عائلية والتزامات دنيوية سيحصلون على تشجيع جديد منك كرب عائلة وواحد منهم. وعليك أن توجههم لكي يدركوا أن بلوغ أسمى درجات اليوغا ليس مستحيلاً على رب الأسرة. وبالرغم من وجوده في العالم، فاليوغي الذي يقوم بواجباته على أكمل وجه وينجز مهامه بأمانة وإخلاص دون دافع أناني يسلك الطريق الموثوق للاستنارة الروحية.
" ’ما من ضرورة تقتضي تركك للعالم، لأنك في أعماقك قطعت كل صلة كارمية تربطك به. ومع أنك لست من العالم، لكن يتوجب عليك البقاء فيه. وما زال أمامك سنين عديدة لتنجز فيها خير إنجاز واجباتك العائلية والعملية والمدنية والروحية. وبوجودك بين أهل الدنيا ستهبّ نسائم حلوة جديدة ومنعشة من الأمل الروحي على قلوبهم القاحلة. وسوف يعرفون من حياتك المتزنة أن التحرر الفعلي يتوقف على الترك الباطني لا على الزهد الخارجي.‘
"وأثناء إصغائي لمعلمي في خلوات الهملايا العالية شعرت أنني بعيد كل البعد عن أسرتي ومكتبي والعالم، لكني سمعت صوت الحق في كلماته فرضيت عن طيب خاطر بالارتحال عن هذا المرفأ المبارك للسلام. وقد أعطاني باباجي التعليمات القديمة الصارمة التي ينبغي مراعاتها بدقة عند نقل طريقة اليوغا من المعلم إلى التلميذ، وأوصاني بالقول:
" ’امنح مفتاح الكريا لكل التلاميذ الجديرين بامتلاكه. فمن لديه الرغبة الصادقة لتضحية كل شيء في سبيل العثور على الله هو وحده كفؤ لأن يحل أسرار وغوامض الحياة بواسطة علم التأمل.‘
"عندئذٍ تطلعت إلى باباجي وقلت متوسلاً: ’يا سيدي الملائكي، يا من تكرمت على البشر بإحياء طريقة الكريا المفقودة! هلاّ ضاعفت تلك الفائدة بتخفيف الشروط الصارمة للتلمذة؟ بالله عليك أن تسمح لي بنقل الكريا لكل الباحثين المخلصين، حتى وإن لم يتمكنوا في البداية من تكريس أنفسهم بصورة قاطعة للترك الداخلي التام. فالمعذبون في الأرض – من رجال ونساء – الذين يطاردهم الألم الثلاثي هم بحاجة إلى تشجيع خاص لأنهم قد لا يتوجهون نحو الحرية إن حرمناهم من تكريس الكريا.‘(8)
"فأجاب المعلم الرحيم: ’فليكن. لقد أعرب الله عن إرادته من خلالك. امنح الكريا لكل من يطلب المساعدة منك بتواضع.‘
"وبعد برهة من الصمت أضاف باباجي: ’ردد لكل تلميذ من تلاميذك هذا الوعد المهيب من البهاغافاد غيتا: (سوالبا مابياسا، دهارماسا تراياتي، ماهوتو بهايات) [إن ممارسة ولو قسط ضئيل من هذا التدريب الروحي أو العمل الصالح ستخلـّص المريد من آلام رهيبة موروثة في الدورات المتعاقبة للولادة والموت.] (غيتا 2- 40)
"وعندما ركعت في اليوم التالي عند قدمي معلمي للحصول على بركة الوداع، أحس باباجي بترددي العميق في مفارقته، فلمس كتفي برفق ومودة قائلا:
" ’ يا ابني المحبوب لا يوجد فراق بيننا. فحيثما تكون وحينما تنادينني تجدني عندك على الفور، في التو واللحظة!‘
"وإذ واساني وعده العجيب واغتنيت بكنوز الحكمة الإلهية التي عثرت عليها حديثاً نزلت من الجبل ومضيت إلى حال سبيلي. ولما وصلت المكتب رحب زملائي بي وظنوا على مدى عشرة أيام أنني ضللت طريقي وسط أحراش الهملايا. وفور وصولي وردت رسالة من المكتب الرئيسي وكان مضمونها: ’يجب أن يعود لاهيري إلى مكتب مدينة دانابور (القريبة من بنارس) لأنه تم نقله عن طريق الخطأ إلى رانخيت، إذ كان من المفترض إرسال شخص آخر للقيام بأعمال رانخيت!‘
"تبسمت ورحت أتأمل التيارات الخفية المتقاطعة للأحداث التي أتت بي إلى هذا المكان الذي هو أقصى بقاع الهند.
"وقبل عودتي إلى دانابور أمضيت بضعة أيام مع أسرة بنغالية في مراد أباد حيث حضر ستة أصدقاء لتحيتي والترحيب بي. وإذ حولت الحديث إلى الأمور الروحية قال مضيفي بكآبة: ’إن الهند تفتقر إلى القديسين في هذه الأيام!" فاعترضت بشدة قائلا: ’ليس كما تقول يا سيد. فالسادة العظام ما زالوا في هذه البلاد!‘
"وتملكني إحساس عارم من الحماس المتقد وشعرت برغبة ملحة لإطلاعهم على اختباراتي الخارقة في الهملايا. وبدا الحاضرون مرتابين بتأدب، وقال أحدهم محاولاً تهدئتي: ’لا هيري، لا بد أن عقلك كان مجهداً في تلك الأجواء الجبلية القليلة الكثافة، وما أخبرتنا به هو من نسج الخيال!‘
"واحترقت غيرة للحق وقلت دون تأمل: ’لو طلبتُ من معلمي الحضور لظهر على الفور هنا في هذا البيت بالذات!‘
"ولمع بريق الاهتمام في أعين جميع الحاضرين، وكان من الطبيعي أن يتشوقوا لرؤية ظاهرة غير عادية كهذه. وببعض التردد طلبت غرفة هادئة وبطانيتين جديدتين من الصوف وقلت: ’المعلم سيتجسد من الأثير. انتظروا بصمت خارج الباب وسأدعوكم بعد قليل.‘
"استغرقت في تأمل عميق ورحت استحضر معلمي بكل تواضع وخشوع وقد غمر نور خفيف ولطيف الغرفة، وما لبث شكل باباجي اللامع أن ظهر.
"ورمقني المعلم بنظرة صارمة وقال: ’لاهيري، أتستقدمني لمثل هذه التوافه؟! معرفة الحقيقة هي من نصيب الباحثين الجادين وليس الفضوليين الخاملين. بالطبع من السهل أن يؤمن الشخص عندما يرى البراهين بعينه فتنعدم الضرورة للبحث عن الروحيات. ولكن الحقيقة التي تفوق إدراك الحواس لا يمكن أن يكتشفها إلا الذين يتغلبون على شكوكهم المادية الاعتيادية.‘ ثم أضاف برصانة: ’دعني أذهب!‘
"ووقعت على قدميه متوسلا: ’يا سيدي الأقدس، لقد أدركت خطأي الكبير وألتمس منك الصفح والمغفرة. وأنا لم أجرؤ على استدعائك إلا لكي أشعل نور الإيمان في تلك العقول المصابة بالعمى الروحي. وبما أنك تكرمت بالظهور تلبية لندائي، فأرجوك أن لا تذهب قبل أن تمنح بركتك لأصدقائي. وبالرغم من عدم إيمانهم، لكنهم على الأقل كانوا على استعداد لاختبار صدق تأكيداتي الغريبة.‘
"فقال باباجي بلطف وقد لانت تقاطيع وجهه: ’حسناً، سأبقى لبعض الوقت إذا لا أرغب في أن تفقد مصداقيتك أمام أصدقائك! ولكن من الآن فصاعداً سآتي إليك يا بني فقط عندما تحتاجني وليس دوماً كلما تناديني."
"ذهل أصدقائي لدرجة كبيرة عندما فتحت باب الغرفة وقد خيم عليهم الصمت. وراحوا يحملقون في الشكل المتألق المتربع فوق البطانية الصوفية وكأنهم لا يصدقون حواسهم. أخيراً قهقه أحدهم قائلا: ’هذا تنويم مغناطيسي جماعي، إذ من غير الممكن أن يكون أي شخص قد دخل إلى هذه الغرفة بدون علمنا.‘
"وتقدم باباجي باسما وطلب من كل فرد من الحاضرين أن يلمس جسمه الدافئ المحسوس. وما أن تبددت الشكوك حتى انبطح أصدقائي على أرض الغرفة بندم وتوبة كبيرين!"
"وقال المعلم: ’فلتـُصنع الحلوى‘
"وقد أدركت أن باباجي قام بهذا الطلب لتعزيز يقين الجماعة بكيانه المادي. وبينما كان الثريد يغلي كان المعلم يسامر الحضور بلطف. ولقد تحول المرتابون إلى جماعة من المؤمنين، ويا له من تحول عظيم! وبعد أن تناولنا الحلوى بارك باباجي كل واحد بدوره، ثم حدثت ومضة مفاجئة فأبصرنا الانحلال الكيماوي الفوري للعناصر الالكترونية لجسم باباجي وقد انتشرت كبخار من الضوء الساطع.  فإرادة المعلم المتناغمة مع الله أرخت قبضتها عن ذرات الأثير المتماسكة معاً والمكونة لجسمه، فانطلقت ترليونات ذرات الحياة المشعة وعادت إلى مستودع الأثير اللانهائي.
"وصاح ميترا أحد أفراد الجماعة بوقار وقد شع وجهه بالغبطة ليقظته الروحية الحديثة: ’لقد رأيت بعيني قاهر الموت. فالسيد الأقدس لعب بالزمان والفضاء كما يلعب الطفل بفقاقيع الصابون. لقد رأيت شخصا يمسك بمفاتيح السماء والأرض!‘
وختم لاهيري ماهاسايا حديثه قائلا:
"عدت للفور إلى دانابور وقد ترسّخ كياني في الروح الإلهي، واستأنفت مجدداً واجباتي المتعددة والتزاماتي العائلية كرب أسرة."
وقص لاهيري ماهاسايا أيضاً لسوامي كيبالانندا وسري يوكتسوار حكاية لقائه الثاني مع باباجي في ظروف تؤكد مقولة المعلم العظيم له: ’سأحضر عندما تحتاجني‘. قال:
"حدث ذلك في إحدى الأعياد الدينية في مدينة الله أباد، حيث ذهبت أثناء استراحة قصيرة من واجباتي الإدارية. وأثناء تجوالي بين حشد النساك الذين وفدوا من بقاع نائية لحضور العيد المقدس لاحظتُ أحدهم معفراً بالرماد وهو يحمل وعاء تسول. وقد خطر في بالي أن الرجل كان مرائياً. فهو إذ تبدو عليه العلامات الخارجية للزهد لا يمتلك بالمقابل بركة داخلية موازية.
"وما أن مررت من أمام هذا المتقشف حتى دهشت لأن أرى باباجي راكعاً أمام أحد الزاهدين من ذوي الشعر المتلبد، فأسرعت إلى جواره قائلا: ’سيدي، ما هي مناسبة وجودك هنا؟‘
"فابتسم لي باباجي كطفل صغير مجيباً: ’إنني أغسل قدميّ هذا الناسك ومن ثم سأنظـّف أوعية طعامه.‘
"وقد أدركت على الفور أنه بقوله هذا كان يوحي لي بأن لا أنتقد إنساناً، بل أبصر سيد الأكوان ساكناً بالتساوي في سائر هياكل البشر، سواء كان أصحابها من ذوي المقامات الرفيعة أو المستويات الوضيعة. ثم أضاف المعلم العظيم: ’إنني بخدمة النساك الحكماء والجهلاء أتعلم بذلك أسمى الفضائل وأكثرها قبولاً عند الله، ألا وهي فضيلة التواضع!‘


برمهنسا يوغانندا 
مذكرات يوغي: السيرة الذاتية Autobiography of a Yogi (المعروفة أيضاً بـ فلسفة الهند في سيرة يوغي)
 
المزيد عن لاهيري ماهاسايا و باباجي وعن تعاليم المعلم برمهنسا يوغانندا 
في موقع سويدا يوغا أو صفحة برمهنسا يوغانندا في فيسبوك

No comments:

Post a Comment