Saturday, November 23, 2013

لاهيري ماهاسايا: كراماته


لاهيري ماهاسايا

 "أيتها الأم المبجلة،  لقد بارك طفولتي زوجك العظيم الذي كان معلما لأبويّ ولمعلمي الموقر سري يوكتسوار،  فهلا تكرمتِ بإطلاعي على بعض أحداث حياتك المقدسة؟"

بهذه الكلمات خاطبت شريماتي كاشي موني رفيقة العمر للاهيري ماهاسايا.  وكنت قد ذهبت إلى بنارس لفترة وجيزة فاغتنمت الفرصة لتحقيق رغبة قديمة في زيارة هذه السيدة الجليلة.  وقد استقبلتني ببشاشة في منزل لاهيري بحي غارودسوار موهلا ببنارس.  ومع أنها قد تقدمت في السن لكنها بدت ناضرة كزهرة الزنبق،  تفوح عبيراً روحيا.  وكانت ذات قامة متوسطة ورقبة نحيلة وبشرة بيضاء،  وعينين كبيرتين لامعتين.

فأجابتني: "يا بني أنت على الرحب والسعة.  تعالَ إلى الطابق الأعلى."

وسارت كاشي موني أمامي إلى حجرة صغيرة كانت قد عاشت فيها مع زوجها فترة من الزمن.  وبوركت لأن أرى المعبد الذي تنازل المعلم المنقطع النظير لأن يلعب فيه دور الزوجية.  وطلبت مني السيدة الكريمة الجلوس على وسادة بجانبها وراحت تروي لي قصتها:

"لقد انقضت أعوام قبل أن أعرف القدر الروحي لزوجي.  فذات ليلة في هذه الحجرة بالذات رأيت في حلم شديد الوضوح ملائكة مبجلين يسْبحون فوقي في جلال يفوق الوصف.  وكان المنظر واقعياً بحيث استيقظت على الفور وقد غمر الحجرة نور باهر بكيفية عجيبة.

"وكان زوجي متربعاً في وضع اللوتس ومرتفعاً وسط الغرفة ومن حوله ملائكة يسجدون له بأيدٍ مضمومة وتضرع مهيب.  وإذ دهشت إلى أقصى حد فقد حسبت أنني لا زلت أحلم.  وخاطبني لاهيري ماهاسايا قائلا: "لستِ تحلمين يا امرأة.  اهجري الرقاد إلى الأبد."  وإذ هبط ببطء إلى أرض الغرفة ارتميت عند قدميه هاتفة:

"سيدي،  إنني أنحني أمامك مراراً وتكراراً!  فهل لك أن تصفح عني لأنني حسبتك زوجي؟  إنني أكاد أذوب خجلا لإدراكي بأنني ظللت غارقة في الجهل بجانب شخص حاصل على الاستنارة القدسية.  ومن هذه الليلة لن تكون زوجي بل معلمي.  فهلا قبلت نفسي الحقيرة تلميذة لك؟"

"ولمسني المعلم برقة قائلا: ’أيتها النفس المقدسة استيقظي،  فإنك مقبولة.‘  ثم أومأ نحو الملائكة وطلب مني أن أنحني احتراما أمام كل واحد من أولئك القديسين المباركين.

"وما أن فرغت من سجودي المتواضع حتى دوّت الأصوات الملائكية في نغمة واحدة كجوقة مرتلين من سفر قديم: ’مباركة أنتِ يا رفيقة السيد الأقدس،  ولكِ منا التحية.‘ ثم سجدوا عند قدمي،  وبعد ذلك اختفت أشكالهم النورانية وساد الظلام.

"وطلب مني معلمي الحصول على تكريس الكريا يوغا فأجبته بالقول: ’بكل سرور،  وأنني أأسف لعدم حصولي على بركاتها قبلا في حياتي‘.

"وأجابني لاهيري ماهاسايا مبتسماً ومواسياً: ’لم يكن الوقت قد حان بعد،  إذ كان عليّ أن أساعدك بصمت على محو الكثير من كرماك.  والآن فأنت راغبة ومستعدة للتكريس.‘

"ولمس المعلم جبيني فبزغ على الفور فيض من النور الدوّار،  وتدريجياً اتخذ اللمعان الأبيض لوناً أزرق بشكل العين الروحية وقد بدت محاطة بهالة ذهبية،  وفي وسطها نجمة بيضاء خماسية.

"ورن صوت معلمي بنغمة جديدة كموسيقى ناعمة آتية من بعيد: ’انفذي بوعيك عن طريق النجمة إلى حيث المملكة اللانهائية.‘

"وغمرت شواطئ روحي رؤى متلاحقة لا حصر لها كأمواج المحيط ثم ذابت الدوائر الشاسعة في بحر من الغبطة الروحية وفقدت ذاتي في نعيم دائم التدفق.  وحينما عدت بعد ساعات إلى وعيي العادي لقنني المعلم مبادئ الكريا يوغا.

"ومنذ تلك الليلة لم يرقد المعلم في حجرتي.  بل أنه لم ينم أبداً بعد ذلك،  بل ظل في الغرفة الأمامية بالطابق الأرضي في صحبة تلاميذه ليلا نهارا."

ولاذت السيدة المستنيرة بالصمت.  وإذ أدركت مدى أهمية صلتها باليوغي الرفيع القدر،  تشجعتُ وطلبت منها أن تقص عليّ المزيد من تذكاراتها،  فتبسمت السيدة بحياء وقالت:

"يا بني إنك نهم.  مع ذلك سأروي لك قصة أخرى وسأبوح لك بخطأ ارتكبته في حق زوجي ومعلمي.  فبعد عدة شهور من تكريسي شعرت بأنني مهجورة ومهملة.  وذات صباح دخل لاهيري ماهاسايا حجرتي بحثاً عن شيء ما،  فلحقت به بسرعة.  وإذ أعماني الخداع فقد خاطبته بلهجة جارحة قائلة: ’إنك تصرف كل وقتك مع تلاميذك،  فما هي التزاماتك نحو زوجتك وأولادك وما هو مدى اهتمامك بهم؟  يؤسفني أنك لا تقوم بتوفير المال اللازم لأسرتك.‘

"وتطلع إليّ المعلم لبرهة قصيرة ثم اختفى،  فشعرت بالخوف والرهبة وسمعت صوتاً منبعثاً من كل أركان الحجرة قائلا: ’ألا ترين أن كل شيء عدم؟  فكيف لعدم مثلي أن يأتيكِ بالمال؟‘

"وصحت متوسلة: ’سيدي إنني ألتمس منك الصفح مليون مرة وأرجوك أن تغفر لي!  إن عينيّ الآثمتين لن تستطيعا رؤيتك بعد اليوم.  أتوسل إليك أن تظهر في شكلك المقدس.‘

"وأجابني: ’إنني هنا.‘

"جاء الجواب من فوقي،  فنظرت إلى أعلى ورأيت المعلم يتجسد في الهواء وقد لامس رأسه السقف.  وكانت عيناه كلهيب يخطب الأبصار.  وإذ تملكني الخوف فقد انتحبت عند قدميه بعد أن هبط بسكون إلى الأرض،  وخاطبني قائلا: ’يا امرأة،  ابحثي عن الثروة المقدسة لا عن بهرج العالم الرخيص.  وبعد حصولكِ على الكنز الروحي ستجدين أن العون الخارجي متيسر على الدوام!‘  ثم أضاف: ’إن أحد أبنائي الروحيين سيهتم بشؤونك.‘

"وبالطبع تحققت كلمات المعلم،  إذ ترك أحد تلاميذه لأسرتنا مبلغاً وافراً من المال."

شكرت كاشي موني لإطلاعي على اختباراتها العجيبة.  وفي اليوم التالي عدت لمنزلها واستمتعت بساعات طويلة من الحوار الفلسفي مع تنكوري ودوكوري لاهيري.  وقد سار هذا الابنان الباران ليوغي الهند العظيم على نهج والدهما المثالي.  وكان كلاهما أبيض البشرة،  مديد القامة،  متين البنية،  ذا لحية كثة وصوت رقيق،  مع جاذبية ممتعة قديمة الطراز.

ولم تكن زوجة المعلم التلميذة الوحيدة له،  إذ كانت هناك مئات أخريات من بينهن أمي.  وذات يوم طلبت إحداهن من المعلم صورة شمسية له فناولها إياها قائلا: "إذا اعتبرتِها وقاية فهي كذلك،  وإلا فليست سوى مجرد صورة."

وحدث بعد عدة أيام أن كانت تلك السيدة مع كنة لاهيري ماهاسايا تقرآن في كتاب البهاغافاد غيتا الموضوع على طاولة عـُلقت خلفها صورة المعلم.  وفجأة حدثت عاصفة كهربائية وأحدثت ضوضاء عظيمة.  فجثت المرأتان أمام الصورة،  وقد ضرب البرق الكتاب الذي كانتا تطالعانه دون أن يلحق بهما أذى فصاحتا: "احمنا يا لاهيري ماهاسايا!"

وقالت التلميذة موضّحة: "شعرت كما لو أن لوحاً من الجليد حال بيني وبين الحرارة الحارقة."

وقد أتى لاهيري ماهاسايا بمعجزتين مع تلميذة تدعى أبهويا.  فقد شرعت هذه التلميذة مع زوجها وهو محام من كلكتا برحلة لزيارة المعلم في بنارس.  ولكن زحمة السير أعاقت حركة عربتهما فلم يصلا محطة القطار (هاورا) إلا وكان قطار بنارس يصفر إيذاناً بالرحيل.  فوقفت أبهويا بجانب مكتب التذاكر تتضرع في صمت: "لاهيري ماهاسايا،  أتوسل إليك أن توقف القطار،  إذ لا يمكنني الانتظار يوماً آخر كي أراك."

وعلى الفور راحت عجلات القطار النافخ تلف وتدور دون أن يتحرك القطار للأمام.  عندها نزل مهندس القطار والركاب إلى رصيف المحطة لرؤية هذه الظاهرة الغريبة،  في حين اقترب من أبهويا وزوجها حارس انكليزي وعرض عليهما خدمته دون معرفة مسبقة.  وقال مخاطباً الزوج: "يا سيد اعطني نقوداً لابتاع لكما تذكرتيّ سفر بينما تصعدان إلى القطار."

وحالما جلس الزوجان في مقعديهما وتسلما تذكرتيهما شرع القطار في التقدم ببطء.  وبفزع عاد المهندس والركاب إلى أماكنهم دون أن يعرفوا كيف استأنف القطار تحركه ولا كيف توقف أصلاً.

ووصل الزوجان إلى بيت لاهيري ماهاسايا في بنارس فانبطحت أبهويا بصمت أمام المعلم محاولة لمس قدميه،  فخاطبها المعلم قائلا:

"تمالكي نفسك يا أبهويا.  يبدو أنكِ تحبين إزعاجي.  أما كان باستطاعتك الانتظار حتى القطار التالي؟"

وزارت أبهويا لاهيري ماهاسايا في مناسبة أخرى تستحق الذكر،  إذ كانت بحاجة لشفاعته هذه المرة لا من أجل قطار بل من أجل حياة الصِغار.  فقالت له:

"ألتمس بركتك يا سيدي كي يعيش طفلي التاسع.  لقد وُلد لي ثمانية أطفال قضوا جميعاً فور ولادتهم."

وابتسم المعلم مواسياً: "سوف يعيش طفلك القادم،  ولكن يجب أن تتبعي تعاليمي بدقة.  ستولد لك ابنة أثناء الليل.  تأكدي من إبقاء المصباح الزيتي مشتعلاً حتى الفجر.  إياكِ أن تغفي وتدعي بذلك النور ينطفئ."

وُلدت لأبهويا ابنة في الليل تماما مثلما تنبأ المعلم العليم.  وطلبت الأم من القابلة كي تحرص على إبقاء المصباح مزودا بالزيت.  ظلت المرأتان ساهرتين حتى ساعات الصباح المبكرة،  غير أنهما استسلمتا أخيرا للنوم حتى كاد الزيت أن ينفد وراح ضوء المصباح يخفق.

في تلك اللحظة رُفع المزلاج وفتح باب الحجرة بعنف فاستيقظت المرأتان جافلتين وأبصرت أعينهما الذاهلة شكل لاهيري ماهاسايا قائلا:

"انظري يا أبهويا،  فها هو المصباح يكاد ينطفئ!  ثم أشار إلى المصباح الذي سارعت القابلة إلى ملئه.  وما أن تألق ثانية حتى اختفى المعلم،  وأغلق الباب وعاد المزلاج إلى موضعه دون وسيلة ظاهرة.  

عاشت الابنة التاسعة لأبهويا،  وكانت لا تزال على قيد الحياة حينما استعلمت عنها سنة 1935.  وقص لي أحد التلاميذ المبجلين للاهيري ماهاسايا (كالي كومار روي) تفاصيل شيقة عن أيامه الأولى مع المعلم،  قال:

"كثيراً ما كنت أنزل ضيفاً عليه في منزله في بنارس لعدة أسابيع في الزيارة الواحدة.  وقد لاحظت أن كوكبة من القديسين المعروفين بـ (داندا سوامي)(3) كانوا يفدون على المعلم في سكينة الليل ليجلسوا عند قدميه.  وأحياناً كانوا يدخلون معه في حوارات تأملية وفلسفية عميقة،  ويرتحل أولئك الأكابر عند منبلج الفجر.  وأثناء زياراتي للمعلم لم أره قط يرقد على فراشه طلباً للنوم."  واستطرد روي قائلا: "أثناء معرفتي المبكرة بالمعلم كنت أتجادل مع رب العمل الذي كان غارقاً في الماديات ويسخر مني بقوله: ’لا أرغب في مهووسين دينياً في مكتبي.  ولو قابلتُ معلمك المهرّج لأسمعته كلمات لن ينساها.‘

"لكن هذا التهديد عجز عن تعطيل برنامجي الاعتيادي،  وبقيت أصرف كل أمسياتي تقريباً مع معلمي.  وذات مساء تبعني رب عملي واندفع بوقاحة إلى حجرة المعلم،  وكنت متيقناً من أنه كان ينوي التفوه بالعبارات النابية التي توعد بها.  لكن ما أن جلس الرجل حتى خاطب لاهيري ماهاسايا تلاميذه الاثني عشر بقوله: ’هل ترغبون في رؤية صورة؟‘

"وحينما أومأنا جميعنا بالإيجاب،  طلب منا المعلم تعتيم الغرفة قائلا: ’اجلسوا في دائرة الواحد تلو الآخر،  وليضع كل واحد منكم يديه على عيني الشخص الجالس أمامه.‘

"ولم أفاجأ إطلاقاً لأن أرى رب عملي ينفذ طواعية تعليمات المعلم الذي سألنا بعد بضع دقائق أن نخبره بما نراه،  فأجبته: ’سيدي أرى امرأة جميلة برداء ذي أطراف حمراء واقفة بجانب نبات (أذن الفيل).  وقد أعطى باقي التلاميذ نفس الوصف.  فالتفت المعلم إلى مستخدمي وسأله: ’هل تعرف تلك المرأة؟‘

"وراح الرجل يصارع بوضوح مشاعر غريبة على طبيعته وقال: ’نعم أعرفها،  وقد أنفقت عليها مالي بحماقة مع أن لي زوجة طيبة.  إنني أخجل من الدوافع التي أتت بي إلى هنا.  فهل تصفح عني وتقبلني تلميذاً لك؟‘

"أجابه المعلم: ’سأقبلك إن عشت حياة أخلاقية طيبة لمدة ستة أشهر.‘ ثم أضاف متنبئاً: ’وإلا فلن أكرّسك.‘

"وعلى مدى ثلاثة شهور قاوم مخدومي الإغراء،  لكنه عاود سيرته السابقة مع تلك المرأة.  وبعد شهرين من ذلك قضى نحبه،  فأدركت إذ ذاك نبوءة المعلم المقنـّعة عن استحالة تكريسه."

وكان للاهيري ماهاسايا صديق مشهور هو سوامي ترايلانغا الذي يقال أنه جاوز سنه الثلاثمائة عام.  وكثيراً ما كان اليوغيان يجلسان معاً للتأمل.  وقد ذاعت شهرة ترايلانغا على نطاق واسع،  لدرجة أن معظم الهنود كانوا يصدقون معجزاته المدهشة.  ولو أن السيد المسيح عاد إلى هذه الأرض وسار متجولا في شوارع نيويورك معلناً القوى الإلهية لأحدث نفس الأثر الذي كان يحدثه ترايلانغا منذ عشرات السنين أثناء مروره في شوارع بنارس الحاشدة.  لقد كان أحد المستكملين العظماء الذين صانوا أسس الهند وحفظوها من تآكل الزمن.

وفي مناسبات كثيرة كان ذلك السوامي يُرى وهو يشرب أشد السموم فتكاً دون أن يصاب بالتسمم.  وهناك ألوف الناس ومن بينهم عدد من الأحياء ممن رأوا ترايلانغا يطفو فوق مياه نهر الغانج أو يتربع لأيام عديدة فوق صفحة الماء أو يتوارى تحت الأمواج لفترات طويلة.  وكان من المناظر المألوفة في حمامات مانيكارنكا في بنارس رؤية جسم السوامي ملقى دون حراك فوق الصخور الحارقة،  معرضاً برمته لشمس الهند العاتية.  وبهذه الأعمال الفذة أراد ترايلانغا أن يعلـّم الناس أن الحياة البشرية لا تعتمد بالضرورة على الأوكسجين،  أو على ظروف واحتياطات محددة.  وسواء  كان فوق سطح الماء أم تحته،  أو سواء كان جسمه معرّضاً لأشعة الشمس المحرقة أم محجوباً عنها،  فقد أثبت ذلك المعلم العظيم أنه يحيا بالوعي الإلهي:  فالموت لم يقو على المساس به.

ولم يكن هذا اليوغي عظيماً من الناحية الروحية وحسب،  بل من الناحية البدنية أيضا!  إذ كان وزنه يربو على الثلاثمائة رطل (بمعدل رطل واحد لكل سنة من عمره!)  وإذ كان نادراً ما يأكل فقد ازداد السر غموضاً.  ومهما يكن فالمعلم يتجاهل حينما يرغب كل قواعد الصحة المألوفة لسبب محدد يعرفه هو وحده.  وأعاظم القديسين الذين استيقظوا من حلم الوهم الكوني وتحققوا أن هذا الكون هو مجرد فكرة في العقل الإلهي يستطيعون فعل ما يريدونه بالجسد،  مدركين بأنه ليس سوى شكل من أشكال القوى المركـّزة أو المكثفة.  ومع أن علماء الطبيعة يدركون الآن أن المادة ليست سوى نشاط مجمّد،  فإن المعلمين المستنيرين روحيا قد تخطوا منذ زمن بعيد وبنجاح النظريات إلى التطبيق الفعلي في مجال التحكم بالمادة وقوانينها.

وكان ترايلانغا يسير عارياً تماماً كما ولدته أمه.  وقد تضايق رجال الشرطة في بنارس من ذلك النمط واعتبروه مشكلة صبيانية محيرة.  فالسوامي العاري،  كآدم في جنة عدن،  كان غير مدرك لعريه،  لكن رجال الشرطة كانوا على دراية تامة به.   وبفظاظة وجفاء زجوا به في السجن،  لكن إحراجاً عاماً حدث إثر ذلك.  إذ شوهد جسم ترايلانغا بحجمه المعهود على سطح السجن،  دون أن تنبئ زنزانته المحكمة القفل عن كيفية فراره.

ومرة أخرى يقوم رجال الأمن المثبطون بواجبهم،  لكن مرة أخرى تندحر القوة أمام الحق،  إذ يُرى ترايلانغا يتمشى دون اكتراث فوق السطح.  وبما أن إلاهة العدل معصوبة العينيين،  فقد صمم رجال البوليس المغلوبون على التشبه بها في حالة ترايلانغا.

وكان اليوغي العظيم يلتزم الصمت الروحي.  ورغم وجهه المستدير ومعدته الضخمة الشبيهة بالبرميل،  قلما كان ترايلانغا يأكل.  وبعد أسابيع من الانقطاع عن الطعام كان يفطر على قدور مليئة باللبن الرائب يقدمها له المريدون.  وفي أحد الأيام انتوى أحد المرتابين الكشف عن "دجل" ترايلانغا،  فوضع أمامه دلواً مملوءاً بمحلول الجير (الكلس) الذي تطرش به الجدران،  وخاطبه بوقار مصطنع قائلا: ’يا معلم،  لقد جئتك ببعض اللبن الخاثر،  فتفضل واشربه.‘

وبدون تردد أخذ ترايلانغا الدلو المملوء بالجير الكاوي وأفرغه في بطنه حتى آخر قطرة.  لكن لم تمض سوى بضع دقائق حتى سقط فاعل الشر على الأرض وراح يتلوى من الألم ويصبح مستغيثاً:

"النجدة يا حضرة السوامي! النجدة،  فأنا أحترق!  بالله ساعدني واصفح عن تصرفي الأثيم."

هنا قطع اليوغي العظيم صمته المعتاد قائلا : "أيها المستهزئ،  ألم تكن تعلم عندما قدمت لي السم أن  حياتي مرتبطة بحياتك؟  ولولا يقيني بأن الله موجود في معدتي مثلما هو حالٌ في كل ذرة من ذرات الكون لكان الكلس قتلني.  أما وقد لمست بنفسك ورأيت بعينك كيف أن الشر يرتد إلى فاعله،  فلا تخدع إنساناً بعد اليوم."

وانسل الأثيم هارباً بعد أن شفته كلمات ترايلانغا.

إن ارتداد الألم لم يصدر عن إرادة المعلم،  بل كان تطبيقاً لقانون العدل الإلهي الذي لا يخطئ، والذي يسند الأرض وما عليها والكون وما فيه.  فالقانون الإلهي المقدس يعمل على الفور لصالح العارفين بالله أمثال ترايلانغا لأنهم تخلصوا وإلى الأبد من قيود الأنا وأهوائها المتضاربة.

إن الثقة بناموس الفضيلة الذي يعمل بدقة متناهية (وغالباً ما يكون حسابه غير متوقع)،  كما في حالة ترايلانغا والأثيم الذي كان ينوي قتله،  تخفف من حدة السخط المتسرع على مظالم البشر.  "لي الانتقام،  يقول الرب،  وأنا الذي يجازي." (رومية 19:12).  فما جدوى وسائل البشر الضئيلة الضعيفة؟  الكون بأسره يعمل على إيقاع القصاص.  العقول الغبية ترتاب في العدل الإلهي،  مثلما ترتاب في المحبة والعلم الشامل والخلود،  وتعتبرها ضروباً من الأوهام الدينية!  والذين يتبنون وجهة النظر هذه غير الحساسة ولا يقفون مندهشين أمام المشهد الكوني عادة ما يخلقون سلسلة من الأحداث المتنافرة في حياتهم تضطرهم أخيراً لطلب الحكمة.

ولقد أشار السيد المسيح إلى القدرة الكلية للقانون الروحي بمناسبة دخوله المظفر إلى القدس.  فعندما كان التلاميذ والجموع يهتفون بفرح قائلين "سلام في السماء ومجد في الأعالي"،  تذمر الفريسيون لهذا المنظر غير اللائق في نظرهم واحتجوا قائلين: "يا معلم انتهر تلاميذك".  فأجابهم: "إنني أقول لكم،  حتى لو سكت هؤلاء فالحجارة ستصرخ." (لوقا 19-37-40).

وبهذا التوبيخ للفريسيين كان السيد المسيح يشير إلى أن العدل الإلهي ليس تجريداً مجازياً،  وأن محبي السلام حتى ولو بترت ألسنتهم من جذورها سيجدون في أساس الخلق ونظام الكون ذاته ما يقولونه وما يدافعون به.  ولقد عنى المسيح: "أتظنون أن باستطاعتكم إخراس محبي السلام؟ أم بمقدوركم خنق صوت الله الذي تترنم حتى أحجاره بمجده وحضوره؟  أتطلبون من الناس أن يكفوا عن الاحتفال بالسلام في السماء وأن لا يتجمهروا إلا لصرخة الحرب على الأرض؟ إذاً فاستعدوا أيها الفريسيون لقلب أساسات الكون! لأن الأتقياء وبالمثل الحجارة والتراب والماء والنار والهواء كلها ستثور ضدكم شهادة على التناغم والانسجام المقدسين في الوجود. "

وفي إحدى المرات منح اليوغي العظيم ترايلانغا بركته لخالي.  فذات يوم رأي خالي هذا المعلم محاطاً بحشد من المريدين في أحد حمامات بنارس،  فشق طريقه إلى ترايلانغا ثم لمس قدميه بتواضع.  وقد دهش الخال إذ تعافى على الفور من مرض أليم ومزمن.

والتلميذة الوحيدة لذلك المعلم العظيم التي ما زالت على قيد الحياة هي شنكاري ماي جيو.  وكابنة لأحد تلاميذ ترايلانغا فقد تلقت تعاليم السوامي منذ سنيها الباكرة،  وعاشت لأربعين سنة في مغارات الهملايا المنعزلة قرب بادرينات وكيدرنات وأمارنات وباسو باتينات.  وهذه الناسكة التي ولدت في سنة 1826 لا تزال تتمتع بصحة جيدة مع أنها تجاوزت القرن.  ومظهرها لا ينبئ عن الشيخوخة،  فهي قد احتفظت بشعرها الفاحم وأسنانها البيضاء اللامعة ونشاطها العجيب.  وهي لا تترك عزلتها إلا مرة كل بضعة أعوام لحضور الأعياد الدينية الدورية.

وغالباً ما كانت هذه القديسة تزور لاهيري ماهاسايا في حي باراكبور قرب كلكتا.  وقالت أنها كانت تجلس في أحد الأيام بجانب لاهيري ماهاسايا حينما رأت معلمه باباجي العظيم يدخل الغرفة بسكون ويتحدث إليهما معا.  وتذكر أن "المعلم الخالد (باباجي) كان يرتدي قطعة قماش مبللة كما لو أنه خرج للتو من غطسة في النهر.  وقد باركني ببعض الإرشادات الروحية."

وفي إحدى المناسبات قطع ترايلانغا صمته المعتاد وامتدح جهراً لاهيري ماهاسايا،  فتذمر أحد أتباع ترايلانغا قائلا: "سيدي،  إنك ناسك نابذ للدنيا،  فكيف تظهر مثل هذا الاحترام إلى رب أسرة؟"  فأجاب ترايلانغا:

"يا بني،  إن لاهيري ماهاسايا يشبه الهريرة المقدسة التي تبقى حيث تضعها الأم الإلهية.  وبالرغم من قيامه بدوره كعلماني،  لكنه حصل على نفس المعرفة الإلهية الكاملة التي من أجها تخليت أنا عن كل شيء،  حتى ثيابي التي تستر جسدي."

برمهنسا يوغانندا 
مذكرات يوغي: السيرة الذاتية Autobiography of a Yogi (المعروفة أيضاً بـ فلسفة الهند في سيرة يوغي)
 المزيد عن لاهيري ماهاسايا وعن تعاليم المعلم برمهنسا يوغانندا 

في موقع سويدا يوغا أو صفحة برمهنسا يوغانندا في فيسبوك


 http://www.facebook.com


تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك

لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو Newer Posts





No comments:

Post a Comment