Monday, December 31, 2012

بلوغ الحكمة الحقيقية

وكلما تعمّق الإنسان في تفكيره كلما كان مستخدِماً للطريقة التي بواسطتها بلغ مستواه الحالي في عملية الإرتقاء الكوني، وكلما اقترب من الروح الأعظم.
وبما أننا نرتقي بواسطة العقل إلى ما فوق الجسد ومتطلباته، فإن التطبيق الصحيح والإرادي لهذه الطريقة العقلية سيجلب نتائجَ محددة وأكيدة. إن تدريب العقل عن طريق الدراسة الجادة المتمعنة بغية تحصيل المعرفة في حقل ما يساعد على تحسين الوعي بالذات بعض الشيء لكنه ليس – من حيث الأهمية – بمستوى عملية التفكير الهادفة إلى تخطـّي الجسد ومعاينة الحقيقة.
في الهند تدعى الطريقة العقلية في أسمى صورها (جنانا يوغا) أي بلوغ الحكمة الحقيقية عن طريق التذكـّّر والتمييز؛ كأن يذكـّر الإنسان نفسه على الدوام: "أنا لست الجسد ولا يمكن لصور الوجود الأرضي العابر أن تؤثـّّر بي. أنا روح."
ولكن من عيوب هذه الطريقة أنها عملية بطيئة لإدراك الذات الروحية ذاتها، وقد تتطلب زمناً طويلاً.  ففي حين تشرع الذات الروحية بإدراك الوعي الذاتي تبقى مع ذلك منشغلة بسلسلة من الأفكار العقلية العابرة التي لا يربطها بها رابط. أما سكينة الروح فتفوق العقل وتسمو على الإحساسات الجسدية، مع أنها – عند إدراكها - تغمر تلك الإحساسات وتتخللها.
ثانيا: الطريقة التعبدية -   وتشتمل على محاولة تركيز ذهننا على فكرة واحدة بدلاً من تركيزه على مجموعة من الأفكار المتنوعة وعلى أمور مختلفة (كما في الطريقة العقلية.)
الطريقة التعبدية تتضمن كل أشكال العبادة كالصلاة (التي يجب تحريرها من كل الأفكار الدنيوية). في هذه الطريقة يجب أن تحصر الذات الروحية ذهنها بعمق وخشوع على ما تختار التركيز عليه: سواء على فكرة محددة للإلوهية أو على الوجود الكلي المطلق.
النقطة الأساسية هي أن يركـّّز المريد عقله على فكرة تعبدية واحدة بهمة وحماس كبيرين.  وبهذه العملية تتحرر الذات الروحية تدريجياً من التشويشات الفكرية العديدة وتمتلك الوقت والفرصة اللازمين للتفكير الذاتي بجوهرها.  فعندما نصلـّي بإخلاص تام من صميم قلوبنا ننسى كل الإحساسات الجسدية ونـُُقصي جانباً كل الأفكار المتطفلة التي تحاول أن تستقطب تفكيرنا وتشغل بالنا.
وكلما كانت صلواتنا عميقة كلما كان رضاؤنا كبيرا. وهذا يصبح المقياس الذي به نقيس مدى ومقدار تقرّبنا من الله الذي هو الغبطة العظمى. وإذ ندع الإحساسات الجسدية جانبا ونضبط الأفكار المشتتة الناشزة يتضح لنا سمو هذه الطريقة على سابقتها.
ومع ذلك فلهذه الطريقة قصور وصعوبات نابعة من تعلق الذات الروحية الطويل والمتواصل بالجسد وعبوديتها له، وهي تحاول دون جدوى إبعاد ذهنها عن مجال الإحساسات الجسدية والعقلية.
وبالرغم من رغبة الإنسان الصادقة في الصلاة أو الاستغراق التام في إحدى صور العبادة، يبقى ذهنه عرضة لغارات الأحاسيس البدنية الجامحة والأفكار العابرة التي تقوم الذاكرة بعرضها واستعراضها. في الصلاة غالبا ما نكون مهتمين جداً بتهيئة الظروف الملائمة للصلاة أو متحمسين كل الحماس للتخلص من المضايقات الجسدية.
وبالرغم من كل مجهوداتنا الواعية فإن عاداتنا غير السليمة التي أصبحت طبيعة ثانية بالنسبة لنا تتسلط على أماني الروح وتقيّد ملكاتها.  وبالرغم من رغبتنا الصادقة يظل العقل مضطرباً مشوشاً بحيث يصدق عليه القول "حيثما يكون فكرك فهناك يكون قلبك أيضا."  لقد طـُلب منا أن نصلـّي لله من كل قلوبنا، ولكننا نبتهل عادة وقلوبنا تتقاذفها عواصف الأفكار والانطباعات الحسية.
ثالثا: الطريقة التأملية – هذه الطريقة والطريقة التالية لها هما طريقتان عمليتان بحتاً وتحتويان على أسلوب تطبيقي من التدريب، ويوصي بممارستهما عظماء الحكماء الذين تعرفوا على الحقيقة في حياتهم. وأنا شخصياً قد تعلمت هاتين الطريقتين من أحد هؤلاء الأقطاب الروحيين العظام.
وبممارسة طريقة التأمل حتى تصبح عادة راسخة نستطيع أن نجلب لأنفسنا حالة من النوم الواعي. هذه الحالة الساكنة والممتعة غالبا ما نختبرها عندما نكون مستغرقين في نوم عميق ونقترب من اللاوعي، أو عند الاستيقاظ منها والاقتراب من حالة الوعي.
في هذه الحالة من النوم الواعي نتحرر من كل الأفكار والإحساسات الجسدية الخارجية ويتسنى للنفس التفكير بذاتها والاقتراب من الحالة السعيدة بين الفينة والأخرى، طبقاً لعمق التأمل ووتيرة الممارسة.
في هذه الحالة نكون غافلين عن الاضطرابات الجسدية والعقلية – التي تشغل الذهن - ومتحررين منها. وبعملية التأمل هذه يتم التحكم بالأعضاء الخارجية والحسية عن طريق تهدئة الأعصاب الإرادية كما في حالة النوم.
الحالة التأملية هذه هي الأولى وليست الأخيرة للتأمل الفعلي. في (النوم الواعي) نتعلم ضبط الأعضاء الحسية الخارجية فقط. والفارق الوحيد هو أنه في النوم العادي يتم ضبط الأعضاء الحسية تلقائياً، بينما في التأمل يتم ضبط الأعضاء الحسية بالفعل الإرادي. ومع ذلك تبقى الذات الروحية في مرحلة التأمل الأولى عرضةً للتشويش من أعضاء الجسد الداخلية اللاإرادية كالرئتين والقلب وأعضاء أخرى نظن خطأً أنه لا يمكن التحكـّم بها.
لذلك ينبغي لنا البحث عن طريقة أفضل من هذه، لأنه ما لم تتمكن الذات الروحية من تعطيل الإحساسات الجسدية بالإرادة، وكذلك الأحاسيس الداخلية التي تسمح بظهور الأفكار، فإنها تبقى عرضة لهذه التشويشات دون الأمل في السيطرة عليها وقمعها، أو امتلاك الفرصة لمعرفة ذاتها.
- برمهنسا يوغانندا
ترجمة محمود عباس مسعود
مزيد من خواطر وتعاليم المعلم برمهنسا في سويدا يوغا



No comments:

Post a Comment