Friday, July 1, 2011

برمهنسا يوغانندا - الملك الزاهد

حكاية الملك الزاهد
حسبما رواها المعلم برمهنسا يوغانندا

في سالف الأزمان عاش في الهند حكيم عظيم يدعى فياصا مؤلف كتاب البهاغافاد غيتا أعظم أسفار الهندوس الروحية. وقد تمكن بفعل قواه الروحية العظيمة من استحضار روح سامية إلى رحم زوجته. ومع نمو الجنين في رحم أمه قام الوالد بتلقين الطفل غير المولود أسرار المعرفة وجواهر الحكمة عن طريق الوعي الباطن لزوجته.

لدى ولادة الطفل سمي سوكديفا. وبفضل تدريب ورعاية والده الحكيم أثبت فعلاً أنه طفل غير عادي بكل المقاييس. ففي سن السابعة تمكن من حفظ كل كتب الفلسفة والحكمة عن ظهر قلب وأصبح مستعدا لنبذ العالم بحثاً عن معلم عارف بالله لتحصيل المزيد.

في الهند يبحث المريد المتعطش إلى الحقيقة عن معلمين روحيين إلى أن يعثر على واحد يدرك في قرارة ذاته أنه المرشد المرسل له من الله لينقذه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.

عندما تكون الرغبة في المعارف الروحية في بداياتها يحصل الراغب على دروس روحية متقطعة من مصادر مختلفة. لكن عندما يتعاظم الشوق لله يبعث الله له معلماً روحياً راسخاً في العلوم الإلهية يكون بمثابة الوسيلة المقدسة للعودة بالمريد الطامح إلى البيت الروحي.. إلى مملكة الله في باطن الإنسان.

عندما قرر سوكديفا الشروع في البحث عن مرشد روحي نصحه والده بالذهاب إلى الملك جناكا حاكم المقاطعة. حمل سوكديفا كتبه وتوجه إلى البلاط الملكي. وما أن دخل بوابة القصر حتى رأى الملك جالساً على عرش ذهبي مرصع بالياقوت والألماس تحيط به حاشية من النساء يهفهفن عليه بمراوح من سعف النخيل (حسبما كانت العادة في الهند القديمة في فصل الصيف القائظ).

كان الملك جناكا آنذاك (منجعياً) على عرشه يدخن الأركيلة الشرقية فصعق الطفل سوكديفا لذلك المنظر وقال في نفسه: "يا عيب الشوم على والدي لإرساله لي إلى هذا الملك الدنيوي حتى النخاع! فكيف لرجل مادي الميول والطباع كهذا أن يكون معلماً لي؟!"

لكن الملك جناكا كان ملكاً وقديساً في نفس الوقت. عاش في العالم لكنه لم يكن من العالم. وإذ كان متقدماً جداً في الروحيات، فقد أدرك عن طريق تخاطر الأفكار ما كان يدور في ذهن سوكديفا الذي ترك بلاطه وقصف عائداً من حيث أتى.

أرسل الملك – القديس رسولاً خلف الصبي يطلب منه العودة. ولدى عودته تقابل المعلم والتلميذ وجهاً لوجه فصرف الملك مساعديه وعلى الفور دخل في حديث شيّق عميق عن الله وروائعه.

مرت أربع ساعات فراح سوكديفا يتململ وشعر بالجوع لكنه لم يشأ إزعاج الملك جناكا الغارق في بحار الله والمنتشي بحبه.

وما أن انقضت ساعة أخرى حتى حضر رسولان يصيحان: "يا صاحب الجلالة، المدينة كلها تحترق، والنيران اللاهبة تقترب من القصر. فهل تكرمتَ بالإشراف على جهود إطفاء الحرائق؟"

أجاب الملك: "إنني منهمك في التحدث إلى صديقي سوكديفا عن الله الرحيم الحامي كل المستجيرين به، الواثقين بعونه. ليس لدي متسعاً من الوقت لعمل شيء آخر. دعوني وشأني واذهبا وساعدا الآخرين على إطفاء الحريق."

بعد مضي ساعة أخرى، عاد نفس الرسولين إلى الملك جناكا وصاحا قائلين: "يا ملك الزمان نتوسل إليك كي تغادر على الفور. فقد حاقت النيران بالقصر واللهب يقترب سريعاً من حجرتك."

أجاب الملك: "لا بأس! لا تزعجاني فأنا ما زلت أعب الشراب الإلهي مع صديقي الكريم. اذهبا وافعلا ما بوسعكما."

دُهش سوكديفا لموقف الملك، لكنه حاول أن يبقى محتفظاً بأعصابه، غير متأثر بما يدور حوله من هرج ومرج. وبعد فترة قصيرة حضر شخصان لسَعتهما النار فوقفا أمام الملك وصاحا بأعلى الصوت: "أيها الملك الجبار أنظر اللهب الحارق يقترب من عرشك! أهرب يا جلالة الملك قبل أن تلتهمك النيران."

فأجاب الملك: "اذهبا حفاظاً على حياتكما، فأنا أشعر بالأمن والطمأنينة بين ذراعي الله الكلي الحماية ولست خائفاً من النار ولهيبها المدمر."

هرب الرجلان بجلديهما وراحت النار تقترب من كومة كتب سوكديفا التي كانت بجانبه، ومع ذلك ظل الملك محافظاً على هدوئه غير آبه بكل ما يحدث.

هنا جزع سوكديفا وفقد هدوءه فنهض من مقعده وراح يضرب ألسنة اللهب بيديه في محاولة منه لحماية كتبه الثمينة. عندئذ ابتسم الملك جناكا وبإشارة من يده اختفت النيران فجأة كما لو لم تكن. فذهل سوكديفا لما رآه وغاص في مقعده وقد اعترته الدهشة والحيرة.

أخيراً قال الملك بهدوء: "يا أيها الفتى سوكديفا، عندما رأيتني ظننت أنني ملك غارق في الدنيويات، لكن أنظر إلى نفسك! لقد تخليت عن الله الكلي القدرة والحماية لكي تحمي كتبك في حين أنني لم ألق بالاً لمملكتي وقصري المحترقين. لقد فعل الله هذه المعجزة لكي يريك أنه بالرغم من زهدك في الدنيا لكنك متعلق بكتبك أكثر من تعلقك بالله، وأكثر من تعلقي بمملكتي مع أنني أعيش في الدنيا بدل الخلوات والصوامع."

شعر سوكديفا بالخجل، وفي نفس الوقت أدرك أن هذا الملك القديس هو - ليس سواه - مرشده الروحي.

بعد ذلك طلب الملك جناكا من سوكديفا القيام باختبار دقيق ليعلـّمه فن العيش في العالم دون الوقوع في شراكه والتقيد بقيوده. ففي ذات يوم أعطى الملك لسوكديفا طاسين طافحين بالزيت حتى الحافة وقال له: "ضع طاساً على كل كف وادخل كل حجرات القصر ذات الأثاث الفاخر وعد إليّ بعد أن تكون قد شاهدت كل محتوياته. لكن تذكر أنني لن أقبلك تلميذاً لي إن سمحت لنقطة واحدة من الزيت بالسقوط على السجاد."

وطلب الملك من اثنين من حراسه كي يرافقا سوكديفا.

ذلك الإمتحان كان عسيراً بالفعل، لكن بعد مضي ساعتين عاد سوكديفا منتصراً. فهو لم يدع نقطة واحدة من الزيت تنسكب من الطاسين الطافحين الموضوعين على كفيه الممدودتين.

فقال له الملك: "هات يا سوكديفا أخبرني عن تفاصيل كل حجرة من حجرات القصر."

فأجاب سوكديفا: "أيها المعلم الملكي، لقد كان ذهني مستغرقاً كلية في الحيلولة دون انسكاب الزيت على السجاد ولذلك لم ألحظ شيئاً آخر في القصر."

فأجاب الملك: "لقد خيبت ظني بك يا سوكديفا! ولم تنجح فعلا في امتحاني لك. لقد طلبت منك أن تعاين كل شيء في حجرات القصر وفي نفس الوقت أن لا تدع نقطة واحدة من الزيت تنسكب من الطاسين. عد وحاول من جديد وتعالَ إليَ عندما تنتهي واخبرني بما رأيت."

بعد عشر ساعات عاد سوكديفا بهدوء. فهو لم يسمح للزيت بالإنسكاب ولم يكن يتصبب عرقاً وإثارة كالمرة الأولى. وقد تمكن أيضاً من الإجابة على أسئلة الملك بخصوص محتويات القصر ووصف تفاصيل حجراته بدقة متناهية.

سُر الملك جناكا لنجاح سوكديفا في الإمتحان وقال بصوت رقيق:

"يا بني، إن التعلق بالممتلكات، وليس الممتلكات نفسها هو منبع الشقاء.

يا سوكديفا، في هذا العالم لا نملك شيئاً بل تـُعطى لنا الأشياء كي نستعملها أثناء إقامتنا الموقوتة على هذه الأرض. البعض لديه ما يستعمله أكثر من سواه، لكن تذكر أن المليونير والفقير سيتركان كل شيء عندما تحين ساعة الرحيل. لا ينبغي للإنسان أن يحيا حياة غير متوازنة كأن يفكر بالله فقط ويهمل واجباته في الدنيا، كحصر ذهنك بالزيت دون مشاهدة محتويات القصر. لكن في جولتك الثانية أبقيت انتباهك محصوراً بالدرجة الأولى بالزيت وفي نفس الوقت شاهدت كل شيء في القصر واستوعبت أدق تفاصيله. هكذا يجب أن تـُبقي فكرك منهمكاً في الله فلا تسمح لزيت الحكمة بالإنسكاب من طاس عقلك، وفي نفس الوقت يجب أن تكون ناشطاً في فعل الصواب وعمل الخير لمساعدة نفسك وأولئك الذين وضعهم الله في عهدتك."

والسلام عليكم.

المصدر: درر برمهنسية

ترجمة: محمود عباس مسعود

مزيد من الدرر البرمهنسية على الرابط التالي

www.swaidayoga.com

لقراءة المزيد من الموضوعات رجاء النقر على Older Post أو Newer Post أسفل الصفحة

No comments:

Post a Comment