Sunday, November 9, 2014

البصيرة



  البصيرة
المعلم برمهنسا يوغانندا   
 
ترجمة: محمود عباس مسعود

البصيرة هي الوسيلة التي بواسطتها نستطيع إدراك عالم المثل الذي لا تدركه الحواس الخمس أو الأفكار. صحيح أن عالم المثل يظهر في العالم الحسي ومن خلاله، وصحيح أن معرفة الثاني تعني معرفة الأول، ولكن هناك فرقاً في طريقة معرفة الاثنين.
هل يمكننا معرفة العالم الحسي بكل أبعاده عن طريق الإدراك الحسي أو الفكر فقط؟ بكل تأكيد لا. هناك حقائق لا متناهية وأمور ونواميس وعلائق سواء في الطبيعة أو في أجسامنا ما زالت كـُتباً مختومة وأسراراً مكتومة بالنسبة للبشر، فما بالك بمعرفة العوالم الروحية التي تكمن خلف الأفكار والمدركات الحسية جميعاً!
البصيرة تبزغ وتعمل من داخل النفس بينما الفكر من الخارج. البصيرة تجعلنا نقف وجهاً لوجه مع الحقيقة بينما الفكر يعطينا صورة غير مباشرة عنها.
البصيرة ترى الحقيقة كوحدة كاملة بفعل ارتباط غريب وعجيب (بينها وبين الحقيقة)، في حين يعمل العقل على تقسيم الحقيقة وتجزئتها.
كل إنسان يمتلك قوة البصيرة مثلما يمتلك العقل. ومثلما يمكن تدريب وتهذيب الفكر، هكذا يمكن تنمية وتطوير البصيرة. في البصيرة نكون في توافق تام مع الحقيقة (مع عالم الغبطة، مع الوحدة في التعداد) ومع النواميس الباطنية التي تحكم العالم الروحي، ونكون أيضاً في توافق مع الله.
كيف نتأكد من حقيقة وجودنا؟ هل عن طريق المدركات الحسية؟ وهل الحواس تنبؤنا بأننا موجودون، وتبيّن لنا مصدر الوعي بالوجود؟ طبعاً لا. الشعور بالوجود لا يتوقف على الحواس التي لا يمكنها أن تكون على دراية واعية بأي شيء دون معرفتنا أولاً بأننا جزء من عملية الإحساس نفسها.
هل ينبؤنا الإدراك الحسي وعملية التفكير بأننا موجودون؟ بالتأكيد لا، لأن معطيات العقل هي عبارة عن انطباعات حسية وهي – حسبما اتضح – غير قادرة على أن تثبت لنا بأننا موجودون.
ولا يمكن لعملية التفكير أن تمنحنا الوعي بالوجود لأن هذا الأخير مندمج في عملية التفكير نفسها. فعندما نقارن أنفسنا بالعالم الخارجي ونحاول أن نفكر أو نستدل بأننا موجودون يكون وعي الوجود موجوداً في نفس عملية التفكير والاستدلال. ومع عجز الفكر وقصور الحواس كيف يتسنى لنا أن نعرف أننا موجودون؟ الجواب هو عن طريق بصيرة النفس فقط. وهذه المعرفة هي إحدى مظاهر الحدس. إنها أسمى من العقل والحواس التي لا وجود لها بغير البصيرة.
من الصعب تعريف البصيرة لأنها قريبة جداً منا جميعاً. كل واحد منا يحس بها. ألسنا نعلم ما هو وعي الوجود؟ إنه مألوف لدرجة لا تقبل التعريف. إن سألت شخصاً ما كيف يعلم أنه موجود لن يتمكن من الجواب. إنه يعرف ولكنه يعجز عن التعريف. وقد يحاول الإيضاح والإفصاح ولكن عباراته لا تعبّر عما يحس به داخل كيانه. البصيرة تمتلك هذه القدرة في كل صورها وأشكالها.
الطريقة الرابعة المشروحة في مكان آخر ترتكز على البصيرة. وكلما كان اهتمامنا بها كبيرا كلما ضمنت لنا معرفة الله بمقدار أكبر.
عن طريق البصيرة يتوصل الإنسان إلى الله ويحصل الارتباط بين العالمين الحسي والمثالي، ويتم إدراك هذا الأخير في العالم الحسي ومن خلاله. عندئذ يتلاشى تأثير الحواس وتختفي الأفكار المزعجة ونعرف الله – الغبطة ويبزغ في داخلنا وعي (الكل في الواحد والواحد في الكل). تلك هي البصيرة التي يمتلكها أنبياء وعظماء وحكماء العالم.
الطريقة الثالثة أو التأملية الموضّحة سابقاً تأخذنا أيضاً إلى عالم البصيرة عندما نمارسها بهمة ونشاط، ولكنها طريقة غير مباشرة وتستلزم وقتاً أطول كي تخلق بنا ما يحدث عن طريق البصيرة أو المعرفة المباشرة.
لذلك عن طريق البصيرة يمكننا معرفة الله في كل مظاهره. إن حواسنا غير قادرة على تعريفنا عليه، لأنها لا تعرف سوى مظاهره. ولا يوجد عقل أو استدلال يمكننا بواسطته معرفة الله على حقيقته، لأن العقل لا يمكنه أن يتجاوز معلومات ومعطيات الحواس. إنه يقدر على تنسيق وتفسير الانطباعات الحسية ليس أكثر.
عندما تعجز الحواس عن تقريبنا من الله يعجز العقل أيضاً لأنه يعتمد عليها. لذلك يجب أن نتوجه إلى البصيرة كي تعرّفنا على الله في مظهره المغبوط ومظاهره الأخرى.
ومع ذلك توجد عوائق عدة للإدراك الحدسي هذا، كالمرض والوهن العقلي والشكوك والكسل والمطامح المادية والأفكار المنحرفة وعدم الثبات. هذه العوائق هي إما موروثة أو مكتسبة من مصاحبة الآخرين. ميولنا الموروثة نحو الأمور الضارة وغير السليمة يمكن التغلب عليها بالمجهود العقلي القوي، مثلما يمكننا التخلص من الفشل والإحباط بقوة الإرادة. بالمجهود الصحيح ومصاحبة الطيبين – مريدي الله – يمكننا اقتلاع العادات السيئة من بستان النفس وغرس العادات الصالحة بدلاً منها.
وما لم نصحب الذين رأوا ولمسوا وأدركوا الحقيقة في حياتهم فقد لا نعرف ماهية تلك الحقيقة.
روح البحث كامنة في الجميع، وكل إنسان في هذا العالم هو باحث عن الحقيقة التي هي ميراثه الخالد، وهو دائم التنقيب عنه بحكمة أو بغباء إلى أن يعثر عليه ويستردّه كاملاً.
لم يفت الأوان بعد. فمن جدَّ وجد، ومن سار على الدرب وصل!
في الحديث الشريف: "خير الأمور عوازمها"
(إن كان للمرء عزمٌ في إرادتهِ
               فلا الطبيعة ُ تثنيهِ ولا القدَرُ)
والسلام عليكم.
تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك

 لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو  Newer Posts
في أسفل الصفحة





No comments:

Post a Comment