Sunday, November 9, 2014

الإنسان المتواري عن الأنظار



الإنسان المتواري عن الأنظار
 
المعلم برمهنسا يوغانندا
PARAMAHANSA YOGANANDA
ترجمة: محمود عباس مسعود

يبدو أن مجرد التفكير بأن الإنسان كائنٌ خفي عن الأنظار هو أمرٌ منافٍ للطبيعة أو العقل. إننا منظورون كل يوم بالنسبة لأنفسنا كأجسام مادية.  ولكن هناك طرق عديدة من خلالها نظهر طبيعتنا الجوهرية الخفية.
مثال على ذلك إن أغمضت عينيك يصبح جسمك غير منظور بالنسبة لك. فكيف تعلم أنك موجود؟ إنك تشعر بوزن الجسم، وتستطيع أن تسمع وتشم وتتذوق وتحس، لكنك حقيقي لذاتك بالفكر والشعور فقط. إنك نواة محجوبة تدور حولها أفكار عديدة.  الآن افتح عينيك. والسؤال هو: هل أنت الشكل الذي تراه أم الكائن الباطن الذي كنت تشعر به للحظة خلت وعيناك مغمضتان؟
الإنسان المنظور ليس على جانب كبير من الأهمية. الذات الخفية أو النفس هي الأهم. أثناء النوم لا تشعر بالإنسان المنظور، لكنك تشعر بنفسك لأنك تعلم لدى الإستيقاظ ما إذا كان نومك هادئاً هانئاً أم غير ذلك.  إذاً ذاتك المحتجبة هي حقيقية. ولولا تلك الذات غير المنظورة لما كان لصورتك المنظورة معنىً أو أهمية.
لولا الذات الخفية لكان الجسم عديم القيمة كالجثة الهامدة أو الجيفة الجامدة.
الإنسان الباطن المحتجب هو الحقيقي. لكن، ويا للغرابة، لا يحاول الإنسان تحليل ماهية تلك النفس الخفية! إن جل اهتمامه منصبٌّ على تلك الصورة الجسدية التي لا يجد صعوبة في لمسها ورؤيتها.  ولذلك فهو يصرف أيامه ولياليه مهتماً بجسمه المادي ومتطلباته بحيث لا يتوقف للحظة ليتأمل أن الذات الباطنية غير المرئية هي الحقيقة.
يوجد داخل الجسم المادي جسم من النور له نفس المشابهة. ومع أنه غير منظور لبصر الإنسان لكنه الغلاف الكوكبي أو الأثيري للنفس.
الأشخاص الذين بُترت إحدى أصابعهم يشعرون كما لو أنها ما زالت موجودة. وكل من فقد أحد أطرافه يعرف هذا الإحساس. هناك صنو أو نظير أثيري محجوب لكل عضو من أعضاء الجسم. فخلف القلب المادي يوجد قلب مستتر ولولاه لما تمكن القلب المنظور من الوجيب.  للإنسان أعضاء غير منظورة من بصر وسمع ودماغ وعظام وأعصاب أثيرية. هذه الأعضاء، التي هي بمثابة أنسجة النور والنشاط، تؤلف الجسم الكوكبي للإنسان غير المنظور.  الجسم الكوكبي أو الأثيري يشابه تماماً الجسم المادي المنظور. والفرق هو أن شكله النوراني الحيوي لطيف للغاية.
 عندما يصاب الجسد بعاهة يجب أن لا يؤكد الإنسان لنفسه أن بصره ولـّى وأنه فقدَ يده. العينان واليدان غير المنظورتين لا تزالان موجودتين.  ومع أن الذراع الجسدية قد تكون مشلولة لكن الذراع غير المرئية ليست معطلة. لا تؤمن قط أن الأعضاء غير المنظورة تتأثر بأي شكل بمرض الأعضاء الجسدية، لأن الأفكار السلبية ستحول دون انسياب النشاط الحيوي الواعي إلى أعضاء الجسم المادي.
التيار الكهربائي يمر وسط السلك.  أيهما الأهم: السلك أم الكهرباء؟  السلك موجود لمجرد تمرير الكهرباء من خلاله. وجود الكهرباء لا يتوقف على السلك.  وهكذا فالجسد موجود كي يستخدمه الإنسان غير المنظور أي النفس، وليس العكس.
ولكن للأسف فإن هذه الذات الخفية مقيدة بالجسد! ولولا ذلك لاستطعنا السير على الماء والتحليق في الفضاء والرجوع ثانية إلى الجسد.
الجسم الأثيري للذات المحجوبة له مدركات حسية أعظم بكثير من نظائرها الجسدية.  لقد ابتكر الإنسان الآلات التي في بعض الحالات هي أعظم بكثير من الجسد المادي المحدود بالعديد من القيود. ولكن عندما ينمو شعورك بالجسم الكوكبي ستجد أنه يستطيع ما لا قدرة للأذن على سماعه، وأن يرى ما لا قدرة للعين على معاينته. كما أن بمقدوره أيضاً أن يشم ويتذوق ويلمس أشياءً تفوق بكثير مجال الحواس المادية.
الناس دائمو العناية والإهتمام بمصباح الجسد المادي دون أن يخطر على بالهم البحث عن تلك الكهرباء السرية التي تضيء ذلك المصباح.
الإنسان المنظور مركـّب من ستة عشر عنصراً: مواد كيماوية يمكن ابتياعها من السوق! الجسد المادي قيمته زهيدة من حيث العناصر المكونة له. لقد آن الأوان لأن ينمّي الإنسان معرفة أفضل بالإنسان الخفي عن الأنظار. ذلك الإنسان المحتجب هو الذي يمتلك القدرات والأفكار والأصحاب.. وهو الذي يحب ويفكر.. وبدونه لا يمتلك الجسد المادي سوى العناصر الكيماوية المركـّب منها.
يجب توجيه الضوء الكشاف للذهن نحو الداخل، بعيداً عن الإنسان المنظور المأسور.
الجسد المادي يعاني من آلام ظهر ومغص ويعاني أيضاً من التدهور والتلف عند حلول الشيخوخة. إنه دائم الولولة والأنين والتحرّق لهذا الشيء أو ذاك.
الإنسان المنظور لا يتحمل سقوطاً عنيفاً محطماً للعظام، وينكمش أحياناً لمجرد وخزة دبوس صغير.
الإنسان اللامنظور لا يؤذيه شيء. إنه حرٌ طليق. بمقدوره ملاشاة كل متاعب ومضايقات الجسد المادي.
الإنسان المحجوب في داخلنا هو ذاتنا الحقة.
ذلك الكائن الكامن وراء ذرات الجسد هو الروح الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يخضع أبداً للتقلب أو الفناء.
يظن الإنسان أنه الجسد لكنه ليس الجسد. قطعة الجليد يمكن تذويبها وتغييبها عن النظر بواسطة عملية التبخر.  العملية يمكن عكسها بتكثيف البخار إلى سائل وتجميد السائل إلى شكل صلب مرة ثانية.
إن العيش بوعي الجسم المادي وحسب هو أمر معوِّق روحياً لأن الجسد معرّض لآلام المرض والأذى والجوع والموت. يجب أن لا نقنع أنفسنا بأننا هذا الجسد المنظور الخاضع للتهشم والتهدم.
الإنسان المحتجب في داخلنا لا يمكن قتله أو إلحاق الأذى به. ألا يجدر بنا بذل مجهود أكبر لإدراك طبيعتنا المجهولة الخالدة؟
وبزيادة معرفتنا لهذه الذات المستترة سنتمكن من السيطرة على الإنسان المنظور كما يفعل عظماء المعلمين. فالذي يشعر بقواه المقدسة ويحس بوجود الإنسان الخفي الباطن يمكن أن يفصل ذاته عن الآلام الجسدية حتى عندما يكون الإنسان المنظور في ضيق وخطر.
وما هي الطريق للحصول على تلك السيادة؟
يجب صرف المزيد من الوقت في سكينة التأمل والهدوء. قد يبدو ذلك أمراً غير مرغوب به في البداية لأن العيش بوعي الجسد والتماهي المتطاول مع إحساساته يجعل من الصعب على الإنسان التفكير بأي شيء خلا متاعبه ورغباته ومتطلباته التي لا تقف عند حد. لكن بعداً جديداً سينفتح في وعي الإنسان عندما يؤكد لذاته هويته الروحية ويقنع نفسه بأنه بالفعل مخلوق على صورة الله النقية.. وبأن حياته لا يمكن أن تفنى بأية وسيلة.. وأنه الإنسان المحجوب والباقي طوال الأبد.
ذلك الإنسان غير المنظور مصاغ على صورة الله، طليق كالروح الإلهي. في الإنسان المنظور تكمن كل قيود العالم ومتاعبه. فحالما نكون شاعرين بأجسادنا نكون مرتبطين بقيود الجسد. ولهذا يعلمنا العظماء كي نغمض أعيننا ونذكـّر أنفسنا – بالتأمل على النفس المحتجبة – أننا غير مقيدين بقدرات الجسد المادية المحدودة.
كثيراً ما أكدت بإيمان وقناعة كبيرين "إنني لست مقيداً بجسدي المادي. فحيثما أردت الذهاب أكون هناك على الفور."
قد تقول "تلك مجرد فكرة لا غير". حسناً. ولكن ما هي الفكرة؟ إن كل ما تراه من حولك هو أفكار مجسدة. لا تستطيع تصور أي شيء دون الفكر. الفكر بحد ذاته غير منظور ومع ذلك يجعل كل ما نراه حقيقياً. لذلك إن تمكنت من التحكم بأفكارك تستطيع أن تجعل كل شيء منظوراً، ويمكنك أن ترى كل شيء بقوة تركيزك العقلي.
عندما تركز تركيزاً ذهنياً جاداً وتبلغ درجة كبيرة من التعمق تستطيع أن ترى بعين عقلك الشيء الذي تفكر به، تماما كما لو كنت تراه بعيني رأسك. الأفكار غير المنظورة يمكن تجسيدها إلى اختبارات مرئية.
إن أغمضت عينيك لا تستطيع رؤية جسدك، ومع ذلك يبقى حقيقياً بالنسبة لك.  فلماذا تفكر أن النفس الخفية غير حقيقية لمجرد أنك لا تستطيع رؤيتها؟
في التأمل ترنو إلى الظلمة خلف العينين المغمضتين وتركز ذهنك على النفس أو الذات الخفية في داخلك.
بالتدرّب على ضبط أفكارك وتحويل عقلك نحو الداخل بحسب أساليب التأمل العلمية الممنوحة من المرشد الروحي ستنمو نمواً روحياً تدريجياً. تأملاتك ستكون أكثر عمقاً وذاتك غير المنظورة التي هي صورة الله الروحية في داخلك ستصبح حقيقية بالنسبة لك. وفي هذه اليقظة السعيدة لمعرفة الذات فإن الوعي الجسدي المحدود الذي كان حقيقيا للغاية يصبح غير حقيقي، وتعلم أنك اكتشفت ذاتك الحقة التي لا تقهر، وأدركت وحدتها مع الله.
وستدرك أيضاً كيف أن الإنسان غير المنظور مقيّد بالجسد الفيزيقي بفعل التعلقات التي هي حبال عقلية وعاطفية ورغبات في أمور محددة على المستوى الأرضي.
ولكن عندما تستطيع بالتأمل العميق حل أو تقطيع تلك الحبال ستتحرر وستعلم أنك صورة الله. ابحث عن الإنسان غير المنظور المأسور في غابة الإحساسات الجسدية والمادية.
إنك لو عرفت لمرة واحدة ذلك الإنسان غير المنظور لأدركت أن الجسم المادي هو غلافه الخارجي، وأن له جسماً نورانياً وله أيضاً جسم باطني فكري، ولأدركت أيضاً أي كائن عجيب أنت!
ركـّز أفكارك على ذلك الأنت غير المنظور. الإنسان المرئي وهم وخداع. الإنسان الباطن أو غير المنظور هو الحقيقي. عندما تعرف ذلك ستعلم أنك لست عظماً ولحماً، بل الإنسان الخفي عن الأنظار الذي لا يحيق به الفناء أو الدمار.
أنت روح والروح لا يموت! لا تظن أن القبر هو نهايتك. عندما يموت الجسد المادي تنتقل الروح إلى مستوى آخر من الوجود. لا شيء يفنى. النموذج الأصلي للجسد هو دائم الحضور في الأثير.
الناس يشعرون أن أحبابهم المفارقين قد ارتحلوا للأبد لأنهم لا يمتلكون مقدرة كافية من التركيز العقلي التي تمكنهم من مشاهدتهم في أشكالهم الشفافة في العالم الأثيري حيث هم مقيمون. فكر دوماً بهذه الحقائق، وكرر لنفسك – إن كنت مهتماً بهذه الأمور – "إنني تصميم الله النوراني.. أنا أبدي ودائم التجوال في مملكة الله."
إنك ذلك الإنسان المحجوب الذي لا يمسه الموت ولا تؤثر به الخطوب، وستبقى كذلك أبد الدهر. فلماذا لا تدرك خلودك الآن؟
عيوننا الجسدية تخدعنا بالتفكير بأن عالم الثنائية هذا هو حقيقي. افتح عينك الروحية وانظر شكلك غير المنظور. فإن انفتحت عينك الروحية في هدأة السكون الباطني سيصبح المحتجب مرئيا.
عندما تكون مفكراً، حالماً، ومركـّزاً ذهنك بعمق تكون ذلك الإنسان المتواري عن الأنظار. ذلك الإنسان هو حقيقي والإنسان المنظور هو ظله.
انسَ الظل وتذكر الحقيقي.
كن واحداً مع الإنسان الذي لا يُرى..
الصورة النقية لرب الورى!
والسلام عليكم.
 
تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك

 لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو  Newer Posts
في أسفل الصفحة




No comments:

Post a Comment