Sunday, November 9, 2014

الرغبة العظمى والكبسولات العقلية



الرغبة العظمى والكبسولات العقلية

للمعلم برمهنسا يوغانندا 
PARAMAHANSA YOGANANDA   
  ترجمة: محمود عباس مسعود

لقراءة المزيد من الموضوعات رجاء الضغط
 على Older Posts أو  Newer Posts

في أسفل الصفحة أو أحد السهمين



عظيم هو مجد الله.  هو جوهر الحقيقة ويمكن العثور عليه في هذه الحياة.  في قلوب الناس صلوات وأدعية كثيرة: من أجل المال والشهرة والصحة.. صلوات من كل نوع وصنف. لكن الدعاء الذي يجب أن يكون الأول والأهم في كل قلب هو من أجل الشعور بالحضور الإلهي. وإذ نسير على دروب الحياة بصمت ويقين يجب أن ندرك بأن الله هو غاية الغايات التي يمكن أن ترضينا وتحقق أمانينا، لأن في الله تكمن الإستجابة لكل أماني القلب.
عندما يتعذر عليك تحقيق رغبة ما بمجهودك الفردي فإنك تتوجه لله بالدعاء.  وهكذا فإن كل ابتهال تتلفظ به ينمّ عن رغبة كامنة في النفس.  ولكن عندما تجد الله تتلاشى كل الرغبات وتتحقق كل الأمنيات.
تبزغ الرغبات الدنيوية بسبب بعض الآراء المغلوطة عن غاية الحياة.  هذه الأرض ليست مقرنا.  لقد أخبرتنا الكتب المقدسة أننا لله، وأننا مخلوقون على صورته، وإن إرادته تقضي بعودتنا إلى أصلنا الإلهي.  الذي لا يعرفه الإنسان هو أنه ما لم يعُد إلى مصدره الإلهي فسيتحتم عليه الكفاح من أجل تحقيق رغبات لا حصر لها.  تصوروا!  صحيح أنه ليس في وسع الإنسان إلا أن يمتلك رغبات، وليس من الخطأ امتلاكها.  لكن معظم الأشواق البشرية تحول دون تحقيق الرغبة العظمى للرجوع إلى الله.  وهكذا فإنها ضارة بسعادة الإنسان.  وما لم يرغب الإنسان بالله ويعثر عليه سيواصل تحرقه لكل ما يظن أنه سيجعله سعيداً.  لكن التحقيق الفوري لكل الرغبات يأتي تلقائياً للذي يعثر على الله.
هناك فئتان من الرغبات:  التي تساعدنا في العثور على الله، والتي تصدنا عن العثور عليه.  مثال على ذلك:  إن أساء لك شخص تشعر بالرغبة في الإنتقام، لكنك إن قهرت تلك الرغبة باستخدام قوة المحبة الأكثر سمواً وقبولاً عند الله تكون قد استخدمت الأداة التي ستساعدك في العثور على الله.  يجب تحقيق كل الرغبات بكيفية نبيلة، إذ عندما يتم تحقيقها بالطرق الدنيوية تتضاعف الرغبات ومعها المتاعب والمعاناة.  إن تعلمنا كيف نقدم كل أشواقنا لله فإنه سيعمل على تحقيق رغباتنا الطيبة وإبادة رغباتنا الضارة المؤذية.  ما من حماية أعظم من الضمير وما من وقاية من لطمات الحياة كامتلاك الرغبات النبيلة السامية.
عندما ندرك أن صورة الله الكلية الكمال هي في داخلنا تتحقق كل رغباتنا.  ففي ذلك الوعي المقدس الذي لا تعدُله نفائس الأرض وذخائرها لن تهتز حتى ولو أُعطيت العالم بأسره.  إذ لا المديح سيخلق بك الزهو  ولا المذمة ستلحق بك الأذية لأنك ستتذوق فرح الله في ذاتك وذلك سيكون الإعتبار الأهم في حياتك.  
يحب أن نطلب أولاً وقبل كل شيء هداية الله في محاولتنا تحقيق رغباتنا المشروعة، وتلك هي الطريقة المثلى للحصول على الاستجابات لكل صلواتنا.  ولكن يجب حذف الإستجداء من الإبتهال. يجب تغيير الطريقة القديمة للدعاء وأن نتوجه إلى الله بثقة تامة وإيمان قاطع بأنه يسمع لنا ويحقق رجاءنا. لا يريدنا الله أن نتخلى عن إرادتنا – حتى عندما نبتهل إليه – لأن تلك الإرادة هي أثمن هدية حصلنا عليها من يده الكريمة وهي حق مقدس أراده لنا منذ خلقنا.
طبيعي يجب أن يميّز الشخص بين الصلوات والرغبات المعقولة وغير المعقولة.  وتذكر أن الرغبة قوة، فإن تشبثت برغبة ما – سواء كانت جيدة أم رديئة، نافعة أم ضارة – وقلـّبتها في فكرك ليل نهار فإنها ستتحقق في النهاية. ومن هذا المفهوم ينبغي توخي الحيطة والحذر وتحاشي امتلاك رغبات ضارة لأنها ستتحقق وستجلب معها لصاحبها ضرراً بالغاً وشقاءً لا يحسد عليه.
مع مرور الزمن ستجد أنه بالرغم من تحقيق رغباتك لكن قلبك ما زال فارغاً، وستشعر بعصيان داخلي.  افرض أن جهازك الهضمي ضعيف ومع ذلك ترغب في تناول الأطعمة المقلية.  بالطبع ستتألم كلما أكلت المقالي نتيجة لذلك بالرغم من شعورك باللذة أثناء تحقيق تلك الرغبة.  وهكذا تشعر أنك ارتكبتَ خطأ.  الحكمة تقتضي استخدام التمييز لفرز الرغبات الرديئة عن الطيبة، ومتى تم لك ذلك ينبغي عدم تحقيق تلك الرغبات الخاطئة.  الإنسان يمتلك قوى التمييز الباطني وينبغي أن يستخدمها دوماً وأن يسير ويسيّر حياته بوحي الضمير الذي هو صوت الله.
الرغبات التي لم تتحقق تبقى متربصة في القلب. وما هو الضرر من إيوائها في القلب؟ إليك الجواب:
إن كل رغبة تتكون من قوى محددة:  إما صالحة أو شريرة، أو من كليهما. وعندما يتوفى الشخص – رحمه الله – لا تموت تلك القوى بالرغم من تحلل الجسد وفنائه. لكنها ترافق روحه حيثما ذهبت على هيئة كبسولات روحية مركـّزة.  وعندما يولد الشخص ثانية في تجسد جديد تظهر هذه الكبسولات أو الأقراص النفسية على صورة نزعات سلوكية.  وهكذا فالشخص الذي مات كحولياً يجلب معه الميل إلى الكحول عندما يولد، ويلازمه ذلك الميل إلى أن يتغلب على الرغبة في الخمر. وهذا ينطبق على أشياء أخرى أيضاً.
إن تصرّف حتى أصغر الأطفال يُظهر بعض الخاصيات المكتسبة من حيوات ماضية.  بعض الأطفال يعانون من نوبات غضب حادة. آخرون طباعهم رديئة.  طبعاً الله لم يخلقهم في الأصل على هذه الحال.  رغبات الحيوات الماضية التي لم تتحقق صاغت هذه الميول السيكولوجية، وبسببها تظهر النفس غريبة بعض الشيء مع أنها مخلوقة على صورة الله النقية.  إن كانت صورة الله مشوهة في داخل الشخص في هذه الحياة سواء بالغضب أو الخوف أو الشهوات ولم يتغلب على تلك الخاصيات الآن، فإنه سيولد من جديد معها (أو ستولد معه)، وسيحمل عبء تلك الميول المولـِّدة للشقاء إلى أن يتغلب عليها في تجسده هذا أو تجسداته المقبلة. إنما لا خلاص منها قبل التغلب عليها.
لذلك فمن الأفضل تحقيق كل الرغبات الآن أو قهرها.
الطريقة الأمثل للتخلص من تلك الرغبات مرة وإلى الأبد هي بملامسة الفرح الإلهي الفائق. وإلا فإن تلك الرغبات المكتومة والمشتهيات غير المحققة ستتعقب النفس وتقضّ مضجعها.
يجب أن يدرك الشخص بواسطة التمييز والحكمة أن الله وحده هو القادر على منح السعادة الخالصة والدائمة.
في معظم الأحيان تظل الرغبات مخبوءة في اللاشعور. قد تظن أنها تلاشت ولكن لا، وهذا سر من أسرار الحياة التي هي بدورها سر عظيم.
لكن السر يتبدد غموضه عندما نحلل الحياة ونتأمل معانيها. إن جلست كل يوم بهدوء لفترة قصيرة وحللت نفسك لوجدت أنك تمتلك رغبات عديدة لم يتم تحقيقها. تلك الرغبات تشبه الجراثيم الفتاكة التي يحملها الإنسان حيثما ذهب، سواء في هذه الحياة أو في العتيدة.
إن أفضل طريقة هي الإستغناء – بالتمييز الحكيم – عن الرغبات الضارة في هذه الحياة وتركيز الجهود على تحقيق رغباتك الطيبة. إن شعرت بالرغبة في الإنتحار أو بفعل أي شيء سيء، فيجب التخلص من تلك الرغبة الآن.  أقنع ذاتك فكراً وفعلا أنك تمتلك شرارة الإلوهية في روحك وتذكر أنك مخلوق على صورة العلي القدير، ولذلك فإنك تمتلك المقدرة على الترفع عن طباعك وعاداتك الجسدية.
كن أقل تعلقاً بالكماليات وأكثر زهداً بالمشتهيات وستفوز في معركة الحياة. وإن كنت تتألم من ألم مستعص حاول قدر الإمكان فصل نفسك عن الوعي الجسدي.  بالتمييز يمكنك التغلب على الحواس.  التمييز الحكيم هو النار التي تحرق الرغبات الضارة والشهوات المؤذية وتحيلها إلى رماد.
من الممارسات الشائعة عند الناس هي تخزين الأشياء العتيقة البالية غير الضرورية في أحد أركان المنزل، وكذلك تعزيل وتنظيف المنزل بين الحين والآخر.  وبالمثل في ركن عقلك اللاشعوري توجد رغبات عديدة ذات أضرار كامنة، وقد تسبب لك متاعبَ كبيرة ذات يوم إن لم تتعامل معها كما يجب.
تحليل الذات أمر بالغ الأهمية على الطريق الروحي.  قد تكون مبغضاً أو نكد الطباع أو غضوباً.  إن كان الأمر كذلك فإن هذه المزايا المختزنة في وعيك هي نتيجة تصرفك الماضي.  ولكي تعزّل مستودعك النفسي من ذلك الأثاث "المتختخ" البالي يجب أن تشرع بالأفعال الإيجابية البناءة وبالإحساس بالمودة نحو الآخرين.  فعلى قدر محبتك للناس سيحبك الناس وستشعر بمحبتهم.  أما إن انتقدتهم ولو بينك وبين نفسك فإنهم سيحسون بذلك الإنتقاد وسيعيدونه إليك مضاعفاً!
افرض أن عدواً قديماً لك قد مات وبقيت مع ذلك تشعر بالحقد والكراهية نحوه، فستعاني نتيجة لتلك الضغينة وستظهَر أعراضُها السيئة في جسمك وعقلك.  من الأفضل أن تسامحه إكراماً لوجه الله لأنك بذلك تتحرر من رغبات الثأر الشريرة التي تفتك بسلامك النفسي وتمزق طمأنينتك.  فتكديس الكراهية على الكراهية أو مقابلة البغضاء بمثلها لا تضاعف خصومة عدوك نحوك فحسب بل تسمم أنت أيضاً جسمك ومشاعرك نتيجة لذلك. فاصفح الصفح الجميل.
 (  لما عفوتُ ولمْ أحقدْ على أحدٍ
          أرحتُ نفسيَ من هم العداواتِ)
يجب أن يترك الإنسان بين الحين والآخر كل شيء ليكون مع ذاته لا غير، كي يتسنى له التفكير بغاية الحياة.  معظم الناس عائمون على تيار من التقاليد والأزياء. في الواقع  أنهم لم يحيوا حياتهم الخاصة أبداً بل يعيشون حياة العالم. فما الذي حققوه من ذلك وإلى أين وصلوا؟
لهذا من الحكمة أن ينتزع الإنسان نفسه بين الفينة والأخرى من المشاغل و"الواجبات" اليومية كي يهدّئ ثائرة عقله ويحاول معرفة ماهيته وتحديد الغاية التي يريد تحقيقها.
وتذكر أن أعظم شهادة يمكن أن تحصل عليها هي شهادة ضميرك: صوت الروح المميز الذي لا يُعلى عليه. ما يقوله لك ضميرك هو أنت على حقيقتك دون تمويه أو تزويق.
 فكر بقوة السيد المسيح الذي قال "اغفر لهم يا أبتاه لأنهم يفعلون ما لا يعلمون."
وفكر بقوة النبي العظيم الذي قال: "ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟" قالوا نعم يا رسول الله. قال: "تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك."
الإصغاء لصوت الضمير المستنير سيجلب النور إلى طريقك والبركة إلى حياتك.  وعندما تشعر بدافع قوي في قلبك لتحقيق رغبة ما، استخدم تمييزك وسل نفسك: "أهي رغبة طيبة أم رديئة تلك التي أسعى لتحقيقها؟"
هناك مؤثرات عديدة تغذي الرغبات في الإنسان.  فعندما يرى سيارة من آخر موديل يريد أن يمتلك سيارة مثلها.  وعندما يرى بيتاً من طراز جديد، يرغب بامتلاك بيت مثله. زيّ جديد من اللباس يصبح شائعاً فتهفو له القلوب وتتلهف على شراء وارتداء ذلك الزي!
من أين تأتي الرغبات؟ لقد صرفتُ ساعات طويلة متفكراً بذلك. هل باستطاعتك تصنيف كل رغباتك؟  لقد تمكنتُ من فرز كل رغائبي وأبقيت على الصالح منها فقط. وعندما حصلتُ على الوصال الإلهي وجدتُ أن كل رغباتي الطيبة قد تحققت مرة واحدة.  اليوم تشتهي شيئاً ما وغداً تتوق نفسك لشيء آخر.  إن عقلك الذي انبثق عن الله القدير لا يمكن أن ترضيه بضاعة هذه الدنيا، ولن يرضى أبداً لأنك يا صديقي العزيز فقدتَ أعز وأنفـَس كنوز روحك الذي وحده له القدرة على إشباع حنينك وتحقيق أشواقك.
ذلك الكنز المفقود هو الله.
صحيح أن هناك بعض الرغبات الطيبة أو الضرورية، وأنه يتوجب عليك العمل على تحقيقها. لكن أثناء محاولة تحقيق رغباتك الطفيفة لا تنسَ أولاً تحقيق رغبتك العظمى نحو الله.  الإقتناع بضرورة تحقيق الرغبات والواجبات الصغيرة أولا هو وهْمٌ وخداع. لا زلت أذكر في بداية طريقي الروحي أنني كنتُ مسوّفاً ولم أتأمل بانتظام مع أنني بقيت أعلل نفسي بأنني سأخصص وقتاً للتأمل. مرت سنة كاملة على هذا النحو قبل أن أدرك أنني لم أنجز ما وعدت نفسي به. وعلى الفور قطعت عهداً على نفسي بأن أول شيء سأفعله في الصباح هو الاغتسال ثم التأمل على الله.  لقد كانت المشاغل اليومية آنذاك كثيرة ولم يكن من السهل الإفلات منها ولو لفترة قصيرة.  لذلك قررت أن أقوم بواجباتي الروحية أولا. وهكذا تعلمتُ درساً كبيراً:  فواجبي نحو الله يأتي في الدرجة الأولى، ومن بعدها أهتم بالواجبات الأخرى الأقل شأناً.
لماذا ينبغي على الله أن يفتح أبواب الأبدية أمام الإنسان إن كان الإنسان يضع واجبات واعتبارات أخرى قبل الله؟ لقد ركـّب الله أجنحة روحية في نفوسنا ويتوقع منا أن نحلـّق في آفاق الروح. تلك الأجنحة هي أشواقنا الروحية وأفكارنا السامية وحنيننا الصادق إلى مصدرنا الإلهي.
فلنبحث عن الله أولاً. ليس من الحكمة إعطاء الواجبات الأرضية الأهمية القصوى لأن عزرائيل قد يستدعى الروح في أية لحظة وعندها ستتوقف وتنتهي كل الواجبات والإرتباطات والمشاغل والإلتزامات مرة وإلى الأبد. فلماذا كل هذا التشبث في الحياة؟
(وإذا المنية ُ أنشبتْ أظفارها
           ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ)
يظن الإنسان أنه يستمتع بالأمن والطمأنينة فيفقد عزيزاً عليه على حين غرة، أو يفقد صحته أو عمله فيذهب الأمان والإطمئنان أدراج الرياح!
كم كانت محبتي لوالدتي عظيمة!  كنت أظن بأنها ستبقى معي دوماً، ولكن فجأة وجدت أنها فارقتني وأنا طفل! يجب أن لا نرهب الموت بل نكون مستعدين له.
(قل إن الموتَ الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم، ثم تُردون إلى عالم الغيبِ والشهادة فينبئكمْ بما كنتم تعملون.)
الحياة ليست كما تبدو. لا تضع ثقتك بها لأنها متقلبة مخادعة وزاخرة بالخيبات وتحطيم الآمال والأماني. لا يمكن العثور على الكمال هنا. لا أريد أن أعطيك صورة غير واقعية عن الحياة.  هذا العالم ليس جنات النعيم. إنه مختبر إلهي حيث يمتحن الله النفوس ليرى ما إذا كانت ستقهر الرغبات الشريرة بالطيّبة وتجعله – أي تجعل الله – رغبتها العظمى، علها تتمكن من العودة إلى ملكوته.
الحياة تعج بكل ضروب التراجيديا والكوميديا.. المآسي والملاهي. إنها مشهد كبير متغير ومختلف الألوان لصنوف لا تقع تحت الحصر.  ما من شيئين اثنين لهما نفس الشبه والمواصفات. حياة كل إنسان فريدة. كل واحد له قسمات وجه مختلفة، ذهنية مختلفة، ورغبات مختلفة.  لو أننا حصلنا على نفس الإختبارات كل يوم لاعترانا الملل ولسئمنا العيش.  وحتى الجنة لو كانت كل يوم على نمط واحد لما رغبنا بها.  إننا نحب الألوان والأصناف. المفهوم التقليدي السائد عن الجنة خاطئ برمته.  فلو كانت تبعث على الضجر لابتهل قديسو وأولياء الله من أجل الرجوع إلى الأرض للترفيه عن أنفسهم!  الجنة دائمة التجدد بكيفية ممتعة إلى أقصى حد، بينما الأرض هي غالباً دائمة التجدد ولكن بكيفية مضجرة ومزعجة.
ومع ذلك، وبالرغم من كون الحياة مرهقة شاقة، يتعود عليها معظم الناس، محتسبين أنه ليس من طريقة أخرى للعيش. وإذ يعجزون عن مقارنة هذه الحياة بالحياة الروحية فإنهم لا يدركون مدى الألم والضجر الكامنين في تضاعيف هذه الدنيا.
(قـُلْ مَتاعُ الدنيا قليلٌ والآخرة ُ خيرٌ لمن اتقى.)
(ألا إنما الدنيا على المرءِ فتنة ٌ
                على كل ِ حال ٍ أقبلتْ أم تولـّتْ)
بالحقيقة الحياة ليست حقيقية.  إنها مجرد تسلية ليس أكثر.  وكما أن الأفلام القديمة يعاد عرضها مراراً وتكراراً، هكذا تتكرر نفس الأحداث القديمة بصور مختلفة. وبالرغم من استمرارية الحياة إلى ما لا نهاية فإن نفس المواضيع المعروضة في أفلام ماضية يعاد عرضها الواحد تلو الآخر. حقاً أن التاريخ يعيد نفسه والناس قطع أثرية في متاحف الزمن.
لتفرغ الحياة ما في جعبتها من مفاجآت، تقبلها بفرح وموضوعية وتجرّد، غير متأثر عاطفياً كما لو كنت تشاهد فيلماً سينمائياً. إن ضحكة من القلب هي علاج مدهش لكل الأسقام البشرية:
(اضحَكْ فإنَّ الشُهبَ تضحكُ والدُجى
                       متلاطمٌ وكذا نحبُّ الأنجما)
 يجب أن تتعامل براحة وأريحية مع الحياة.  هذا ما تعلمته من معلمي. ففي بداية تدريبي الروحي في صومعته، كنت أقوم بواجباتي بوجه متجهم لا أبتسم قط. وذات يوم لاحظ معلمي ذلك وأشار قائلاً: "خير إن شاء الله! هل أنت في مأتم؟ ألا تعلم أن العثور على الله يعني تكفين الهموم ودفن كل الأحزان؟ لا تأخذ الحياة على محمل كبير من الجدية."
لقد علمني أن من واجب الإنسان أن يرتفع بفكره فوق كل المشوشات والمنغصات الأرضية حتى يتمكن من العثور على الحرية الكاملة في الله.
يجب أن يحافظ المرء على توازنه في الأفراح والأحزان، والربح والخسارة، والنصر والفشل حتى يتمكن من مواجهة تحديات الحياة بجرأة وثقة بالنفس.
المحافظة على التوازن النفسي بالرغم من كل الأحداث هي أفضل طريقة للتغلب على الرغبات المخادعة. هذا ما تعلمته من العظماء الذين لم تؤثر بهم أحداث الزمن، بل ظلوا صامدين عديمي التغير حتى النهاية. وحتى الأنبياء عندما عُذبوا لم يفقدوا وعيهم المقدس ولم يسمحوا لأحد بأن يسلبهم محبة الله.  الفرح الروحي هو بحد ذاته حماية مباركة وهو أعظم حصن على الإطلاق.  ووسط المحن والآلام تذكر الخيرات التي أنعم الله بها عليك.  روحك هي معبد مقدس لله.   ويجب عدم السماح لظلام الجهل بتدنيس  ذلك المكان الطاهر. فما أروع أن يكون المرء في وعي الروح، عزيزاً كريماً، آمناً مطمئناً! لا تخشَ شيئاً ولا تكره أحداً.  امنح محبتك للجميع.  اشعر بمحبة الله وابصر وجوده في كل الناس، ولتكن رغبتك الأقوى حضوره الدائم في قلبك.  تلك هي الطريقة للعيش بسلام وطمأنينة في هذا العالم. إنما من الصعب تذوق هذا الرضاء الذاتي ما دامت رياح الرغبات العاتية تعصف في واحة القلب وتهز أشجارها هزاً عنيفاً.
تتشكل الرغبات طبقاً لبيئة الشخص.  فهي وليدة مدركاتنا الحسية ومحدودة بمحدودية تلك المدركات. إن حضور معرض ريفي يحقق الرغبة في بعض الإثارة، لكن بعد أن تكون قد زرت معرضاً عالميا وشاهدت كل المعروضات المختلفة يفقد المعرض الصغير رونقه وقوته الجاذبة.  وهكذا يجب أولا أن نتذوق فرح التواصل مع الله حتى نتمكن من المقارنة بين ذلك الفرح والمباهج الأرضية الأقل شأناً. عندئذ ستكون الرغبات ذات طبيعة أسمى. الرغبة لا نهاية لها، إذ ما أن تتحقق رغبة حتى تحل محلها رغبة أخرى.  لكن عندما تعثر على الله تتحقق رغباتك كلها. "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تعطى لكم. (وما عند الله خير وأبقى.) فلماذا لا نطلب أولاً تحقيق تلك الرغبة العظمى ونحصل من يد الله الكريمة على الأفضل والأكثر دواماً؟!
عندما يستجيب الله لدعاء المريد في التعرف عليه ستتحقق كل رغباته الأخرى على الفور وللأبد.
يظن البعض أن لا رغبات لديهم. طيّب!
لقد لاحظت ما يحصل غالباً عندما يذهب الناس إلى السوق. قد لا تكون لديهم رغبة في شراء شيء بعينه، لكن فجأة يلفت انتباههم شيء ما فيفكرون "أي والله لازم أشتريه!"
وإن لم يشتروه في تلك اللحظة يبقى يراود أفكارهم ليل نهار إلى أن يشتروه أخيراً حتى ولو اضطروا لاقتراض المال. يفرحون به لبعض الوقت لكن بالتدريج يخبو رونقه وتتضاءل البهجة في امتلاكه فيرغبون في شيء آخر، وهلم جرّاً.
أحياناً نقابل شخصاً يقول: "آه لو عندي مبلغ كذا من المال (أو سيارة من طراز خاص أو مسبح أو.. أو..) وما أن تتحقق تلك الأمنية حتى يبزغ شوقٌ آخر لشيء جديد.
الرغبات البشرية ناقصة بطبيعتها ولذلك فإنها تعجز عن تحقيق السعادة الكاملة لأصحابها.
العالم سيحاول صدك عن التذكر بأن الرغبة الوحيدة الجديرة بالإعتبار هي العثور على الله. ولكن يجب أن تذكـّر نفسك بهذا كل يوم.  عندما يقرر الإنسان الإقلاع عن التدخين أو عدم تناول الطعام بشراهة أو عدم الكذب أو عدم الغش فيجب أن يكون حازماً في مقرراته وألا يضعف.  البيئة السيئة تمتص الإرادة وتوهنها وتخلق في الشخص رغبات خاطئة.  تأخذ منه أفضل ما لديه وتعطيه أسوأ ما عندها.  من يعش مع اللصوص يظن أنها تلك الطريقة الوحيدة للعيش.  ولكن مصاحبة الأخيار توجه الفكر نحو الأمور السامية بحيث تعجز الرغبات الخاطئة عن إغراء الإنسان.  كل شيء خاضع للتغير والتقلب في هذه الحياة.  لكن بضعة لحظات من التأمل العميق أو مطالعة المواضيع الروحية النقية والتأمل عليها ستكون بمثابة رافدة من الإلهام تنقل الباحث الجاد عبر محيط الخداع والأوهام إلى الشواطئ الإلهية (حيث لا يمسهم فيها نصَبٌ وما هم منها بمُخرجين.)
(أعِدّتْ الراحة ُ الكبرى لمن تعِبا       وفازَ بالحقِّ مَنْ لمْ يألـُهُ طلـَبا)
السعادة الحقيقية تكمن في الشوق لله ومداومة التفكير به. ومع المثابرة يأتي وقت يصبح فيه الفكر ثابتاً غير متأرجح بحيث تعجز أعظم بلية جسدية أو عقلية أو نفسية عن تحويل وعيك عن الله. أليس مدهشاً أن يحيا الإنسان بوعي الله والتفكير والشعور به كل حين، وأن تبقى في معقل حضوره الذي لا يُقحم، حيث لا يستطيع الموت ولا أي شيء آخر سلبك سلامك الباطني؟! (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.)
عندما تمسي محصناً ضد كل الشهوات تكون مستمتعاً بالحضور الأبدي.
غريبة هي هذه الحياة، إذ كل شيء خاضع للتغيير.  لهذا يجب ألا يرسي الإنسان قارب سعادته على شواطئ هذه الحياة ذات الرمال المتحركة.  إن زمننا سيزول، وما يراه الآن سيصبح في خبر كان يوماً ما.  لا بأس من التغيير ما دمت لا تسمح له بإيذائك. وعندما يؤذيك فالثورة النفسية التي تشعر بها هي رسالة لك على عدم امتلاك الرغبات.  عندما تكون آمناً في الروح الإلهي تستمتع بكل شيء لكن دون تعلق أو ارتباط. لذلك فإن بذل المجهود للتعرف عليه هو أمر في غاية الأهمية لمن يهمه الأمر، وإلا فالحياة مخيبة للظنون، محطمة للآمال بكيفية مريعة.
عندما عدت إلى الهند سنة  1935 كنت أأمل في زيارة الأمكنة التي أحببتها في مرحلة الطفولة، لكنني رأيت لدى وصولي أن كل شيء قد تغيّر.  فمسرح الحياة أعيد ترتيبه بكيفية مختلفة.  وأكبر خيبة وصدمة كانت عندما زرت بيتي القديم في أيكابور حيث كنت ألعب وأشاهد الطيور.  فشجرة واحدة بقيت من بين كل ما كنت أذكره.  تلكم هي الحياة!  الأشياء المألوفة العزيزة تغيب عن أبصارنا الواحد تلو الآخر.  كنت على استعداد لبذل كل ما لدي في سبيل مشاهدة بيتنا مثلما كان زمن الطفولة.  ومع ذلك فقد حقق الله أملي، إذ رأيت البيت فيما بعد مجسداً في الرؤيا، حيث سبحنا في البركة  ثم صعدت إلى الطابق الثاني واستلقيت على السرير وأكلت المانغو، تماماً مثلما كنت أفعل منذ سنين عديدة قبل ذلك.
يجب فحص وتمحيص الرغبات بدقة كبيرة الآن، وفرزها جيداً والاحتفاظ فقط بالصالح منها، وعدم السماح حتى لتلك الرغبات الطيبة بخنق الرغبة الأهم في الله.
تلك الرغبة يجب أن تبقى حية ومتوقدة وألا يُسمح لها بالهمود أو الخمود.  الإنسان واقع تحت وهم كبير عندما يطلب من الله كي يحقق رغباته الأرضية ولا يطلب منه أن يعرفه على ذاته.  تصور ابناً دائم الطلب من والديه كي يحققا طلباته، وما عدا ذلك لا يسأل عنهما ولا يفتكر بهما. ذلك عقوق ونكران للجميل، وفي ذلك درس للمتفكرين.
عندما يُطبق كتاب الحياة هذا لن يرافق المرء سوى المعرفة الروحية التي اكتسبها في حياته إبان إقامته الأرضية الموقوتة.  لذلك يجب أن يبقى الله نصب عينيه وأن يداوم التفكير به وألا يغفل عن ذكره إن كان مهتماً حقاً بمستقبله الروحي. عندما نكون على اتصال مع الله سنجد أن كل الرغبات قد تحققت بكيفية غامضة. ولكن يجب أن نطلب الله أولا.  إنه كريم وقد وهبنا كل شيء، ولكن لن نعثر عليه إلا عندما لا نبقى قانعين بعطاياه بل نتوجه إلى العاطي نفسه. وسنتعرف عليه ما دمنا صادقين في مسعانا، جادين في رغبتنا في التقرب منه وملامسة حضوره المبارك.
أصعب عقبة تواجه الإنسان هي ذاته.  فعندما يحاول الجلوس بهدوء والتفكير بالأمور الروحية تبزغ الأفكار الدنيوية فجأة لتصده عن قصده وتحول دون تحقيق مبتغاه.  يجب أن يتدرب على التحكم بفكره وجسمه وبذلك سيحمل فردوساً نقالا في روحه.  وفي الحياة أو الممات، وفي النعيم أو الجحيم، ستلازمه تلك السعادة العظمى.
يجب أن نصلي لله بعمق ونبثه شوقنا العظيم، طالبين منه بلغة القلب ولهفة الروح وهمس الوجدان كي يستمع إلينا ويستجيب. أما إن صلى الشخص بفتور وفكـّر في نفس الوقت بشيء آخر يعلم الله أن المقام الأول ليس مخصصاً له في نفس ذلك الإنسان فلا  يستجيب.
يجب أن نمتلك الله أولا. الوقت هو الآن. يجب عدم الإنتظار لأن الأوهام قوية للغاية. العمر ينقضي بسرعة ومن العار أن يغادر الإنسان هذا العالم دون التعرف على غاية الحياة.  يجب أن نتأمل كلما سنحت لنا لحظة فراغ. وحتى لو لم تستجب صلواتك مبدئياً لا تقنط من رحمة الله بل تابع الابتهال. صلّ بإخلاص وثق أن دعاءك سيستجاب.
لقد رأيت في حياتي أعظم البراهين على استجابة الله للدعاء.  ولكن تلك الاستجابة يلزمها بذل المجهود، إذ لا شيء ذا بال يأتي بدون مجهود.  التأمل ضروري لرفع الغطاء عن أسرار الحياة والنفاذ إلى مملكة الله.
العادات الرديئة والمشوشات الأخرى كلها ستحاول أن تزعزع جهودك وتوهن عزيمتك. لكن إن أردت أن تكون سعيداً احتفظ بكفرك متجهاً نحو الله وستجده قريباً منك.
الرغبات في الملذات الأرضية تخلق جذباً مغناطيسياً يشدّ الإنسان شدّاً إلى هذه الأرض حياة بعد حياة. العودة إلى التجسد تصبح غير ضرورية بالنسبة للذين حققوا رغباتهم في الله. فحيثما يرغبون في تحقيق أية أمنية يفكرون بذلك الشيء فيتجسد أمامهم.  لقد ظهرت والدتي أمامي بعد وفاتها فتعزيت برؤيتها وشكرت الله على جوده. حقاً أنه أكرم الكرماء وأرحم الرحماء. فهو يحقق رغباتنا ليبرهن محبته وامتنانه لنا عندما نخصص له المكان الأول في قلوبنا.
عندما يتمكن الإنسان من التوصل إلى الله يصبح سيد الحياة وسيد القدر.  يجب أن لا نهدأ قبل ترسيخ الكيان الإلهي في حياتنا. إنه سيمنحنا كل ما تشوقنا إليه وسيمتحننا.
التجارب والعقبات على الطريق الروحي كثيرة وكبيرة، لكن مع اجتياز تلك التجارب وتجاوز تلك العقبات يجب أن نقول: "يا رب، لقد  استجبتَ لصلواتي وحققت أعظم أمنياتي فأصبح قلبي غنياً بحضورك وروحي مشرقة بنورك."
والسلام عليكم.
 تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك


 لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو  Newer Posts
في أسفل الصفحة






 
   



No comments:

Post a Comment