Sunday, December 30, 2012

قالوا في سيرة يوغي

مذكرات يوغي: السيرة الذاتية (فلسفة وأسرار الهند) {فلسفة الهند في سيرة يوجي}

للمعلم برمهنسا يوغانندا

بعض ما قيل في  هذا الكتاب:

"إنني ممتن لكم لتزويدي ببعض الومضات عن هذا العالم المدهش."
                                                    توماس مان – حاصل على جائزة نوبل

"لم يدوَّن من قبل، لا بالانكليزية ولا بأية لغة أوروبية أخرى مثل هذا الكتاب عن اليوغا."
                           - مجلة الأديان الصادرة عن دار النشر التابعة لجامعة كولومبيا

"دراسة رائعة، واضحة، ومستوفية الشروح."
                                                  مجلة نيوزويك

"مذكرات يوغي: السيرة الذاتية" هو في الحقيقة كتاب لكل العصور. فبالنسبة لكم هو البرهان الحي لحياة تكللت بالنصر المبين، وبالنسبة للعالم هو شهادة لأعوامكم العديدة التي أمضيتموها في خدمة العمل العظيم. أما بالنسبة للهند فسيكون مذكـّراً بالنهر الخالد للحكمة والهداية الروحية المنساب اليوم كما في غابر الأزمان من أعالي القمم المكللة بالثلوج.. من أرض الإنسانية المقدسة. فلينطلق في رسالته التنويرية بقوة متعاظمة حاملا لكل القارات هداية وبركات العظماء، والوعد بالخلاص لكل البشرية. إنني أتنبأ لكتابكم هذا نجاحا باهرا سيدهشكم ويدهشنا جميعا."
                      المستشرق و. ي. إيفانز ونتز

"أثر نادر"
                   نيويورك تايمز

"رؤى صادقة... ستساعد البشرية على فهم أفضل لذاتها... سيرة ذاتية في ذروة الإبداع وغاية الروعة... مدهشة تأسر اللب... مدونة ببديهة ممتعة وإخلاص ما بعده إخلاص."
                                            نيوز سنتينال، فورت واين، إنديانا

"صفحات ستهز أوتار قلب القارئ، لأنها تتجاوب مع أعمق طموحات وآمال القلب البشري."
                                        أل تمبو دل لونيدي – روما

"حكمة لا تستقصى، تدهش النفس وتحرك للأبد مكامن الشعور."
                                     هاجش بوست، هولندا

"جوهرة نادرة، قيمتها لا تقدر بثمن. لقد كان برمهنسا يوغانندا ممثلا مثاليا لحكماء وقديسي العصور..."
                 سوامي سيفانندا ، مؤسس جماعة النور الإلهي، ريشيكيش، الهند

أبواي وطفولتي المبكرة
للحكيم برمهنسا يوغانندا

تميزت الثقافة الهندية بالبحث عن الحقائق الخالدة وما يقترن بها من علاقة التلميذ بمعلمه الروحي Guru(1).  وقد قادني الدرب الذي سلكته إلى حكيم مستنير صيغت حياته الرائعة من أجل الأجيال.  إذ كان من أولئك السادة العظام الذين هم ثروة الهند ومجدها،  والذين بظهورهم على مر العصور وقـّوا بلادهم من المصير الذي حاق ببابل وبمصر القديمتين. 
إنني أجد ذكرياتي الأولى تشمل اللمحات الخاصة بتجسد سابق،  وقد جاءتني تذكارات جلية عن حياة نائية لي كيوغيYogi (2) بين ثلوج الهملايا.  وهذه اللمحات للماضي أمدتني عن طريق حلقة متواصلة بلمحة عن المستقبل أيضا.
ولم تغب عن ذاكرتي مذلات الطفولة عديمة الحيلة،  فقد كنت على دراية وحنق بعجزي عن السير أو التعبير عن ذاتي في سلاسة ويسر.  وكانت أمواج التوسلات تعتمل في داخلي عندما أدركت عجزي الجسماني،  واتخذت حياتي العاطفية القوية تعبيرا نفسيا بكلمات في مختلف اللغات.  وفي غمرة الكلام الذي كان يصطخب في داخلي تعودت أذناي على سماع المقاطع البنغالية الخاصة بأهلي.  وما أوسعه من مجال لعقل الطفل الذي يعتبره الكبار منحصرا في اللعب واللهو.
وبالإضافة إلى عجزي الجسماني فقد أحدثتْ ثورتي النفسية نوبات عديدة من البكاء.  وإنني لأذكر الحيرة العائلية الشاملة عن شقائي،  ولكن هناك ذكريات أسعد تحتشد في عقلي:  كتدليل أمي لي ومحاولاتي الأولية في نطق العبارات ومشي الخطوات القصيرة.  وهذه الانتصارات الأولى والتي غالبا ما تنسى سريعا هي الأساس الطبيعي للثقة بالنفس.
أما تذكاراتي البعيدة فهي ليست فريدة من نوعها،  إذ هناك العديد من اليوغيين ممن احتفظوا بوعيهم الذاتي دون الانقطاع الذي يحصل بفعل الانتقال الدراماتيكي من وإلى "الحياة" و"الموت".  فلو كان الإنسان جسما لا غير لوضع فقدانه للجسد حدا فاصلا بينه وبين إحساسه الذاتي.  ولكن إن كان الرسل والأنبياء على مر الأجيال قد نطقوا صدقا فإن الإنسان في الحقيقة هو روح غير مادي وكلي الحضور.
وذكريات الطفولة الجلية بالرغم من كونها غير عادية فهي ليست نادرة الحدوث،  إذ قد استمعت أثناء تنقلاتي في بلدان عديدة إلى ذكريات موغلة في القدم من رجال ونساء صادقين.
لقد ُولدتُ في 5 يناير/كانون ثاني سنة 1893،  وقضيت السنوات الثماني الأولى في مسقط رأسي (غوراخبور) من المقاطعات المتحدة بالهند الشمالية الشرقية قرب جبال الهملايا.  لقد كنا ثمانية أطفال:  أربعة صبيان وأربع بنات.  وكنت أنا (موكوندا لال غوش)(3) الابن الثاني والطفل الرابع للأسرة.
أبي وأمي كانا بنغاليين من طائفة (كشاتريا)(4).  وكان كلاهما تقيا بطبيعته،  ولم يتخذ حبهما المتبادل الهادئ الرزين مظهرا طائشا أو مستهترا،  بل كان الوفاق الأبوي الكامل المحور الذي تدور حوله ضوضاء وصخب ثمانية أطفال.
كان أبي بهاغاباتي شاران غوش  طيب القلب رصينا وصارما أحيانا.  ورغم حبنا الكبير له فقد كنا كأطفال نراعي مجالا من الاحترام والتبجيل.  وكرياضي ومنطقي بارع ،  فقد كان العقل يسيره بصفة خاصة.  أما أمي فكانت ملكة القلوب،  إذ علمتنا دروس الحياة عن طريق المحبة فقط.   وقد أظهر والدي بعد وفاتها فيضاً من الحنان الداخلي،  إذ لاحظت آنذاك أن نظرته كانت تتحول أحيانا إلى نفس نظرة  العطف الذي لمسناه في أمي.
وفي حضرة الأم تذوقنا – نحن الأطفال – المعرفة الحلوة والمرة للأسفار المقدسة.  فقد كانت الوالدة تغترف من المهابهاراتا والرامايانا(5) قصصا ملائمة للتهذيب والتأديب،  وقد سار التعليم والقصاص في تلك المناسبات يدا بيد.
وكلفتة احترام نحو الوالد كانت الأم تلبسنا بعناية بعد ظهر كل يوم لاستقباله عند عودته من مكتبه.  وكان مركزه يعادل نائب رئيس سكة حديد بنغال – ناغبور إحدى كبريات الشركات الهندية.  ولما كان السفر من متطلبات عمله،  فقد سكنت أسرتنا في مدن عديدة أثناء طفولتي.
والدتي كانت تمد يد العون للمعوزين.  وأبي كذلك كان كريماً،  لكن احترامه للقانون والنظام كان يقتضي الدقة في صرف المال.  وحدث مرة أن أنفقت أمي خلال أسبوعين على إطعام الفقراء ما يزيد عن دخل الأب الشهري،  فقال لها والدي:
"إن كل ما أرجوه منكِ هو أن تحتفظي بصدقاتك ضمن حدود معقولة."
لكن هذا الزجر الهادئ من الزوج كان مؤلما للأم.  وبدون أي تلميح للأطفال عن الخلاف استدعت عربة أجرة،  وخاطبتنا قائلة:  "أستودعكم الله.  إنني ذاهبة إلى منزل أمي."
انفجرنا في نحيب مذهل وقد شعرنا بحزن عميق،  ولكن خالنا حضر في الوقت المناسب وهمس في أذن والدي نصيحة سديدة مكتسبة ولا شك من كنوز الأجيال،  فقام الوالد باسترضاء الوالدة بكلمات ودية مما جعل الوالدة تصرف العربة بسرور.  وبذا انقضى النزاع الوحيد الذي لاحظته على الإطلاق بين أبي وأمي.  ولكني أتذكر نقاشا ذا طابع مميز،  إذ ابتسمت الوالدة قائلة:
" أرجو أن تعطيني عشر روبيات لامرأة مسكينة أتت إلينا للتو طلبا للمساعدة"
وكان لابتسامتها إغراء خاص،  فأجاب أبي:
"لمَ عشر روبيات؟ روبية واحدة تكفي." ثم أردف الوالد تبريرا لذلك:
"عندما توفي والدي وجدّي فجأة تذوقت للمرة الأولى مرارة الفقر والحرمان.  فقد كان إفطاري الوحيد قبل السير لبضعة أميال موزة صغيرة.  وبعد التحاقي بالجامعة كنت في أمسّ الحاجة للمال بحيث اضطررت لأن ألتمس المساعدة من قاض ثري كي يمنحني روبية واحدة في الشهر،  لكنه رفض طلبي معتبراً الروبية مبلغاً لا يُستهان به!"
فقالت الأم ببديهتها الحاضرة:  "بالفعل أنك ما زلت تذكر بمرارة عدم منح القاضي لك تلك الروبية.  أترغب أيضا أن تحتفظ هذه المرأة بالذكرى المؤلمة لرفضك إعطاءها الروبيات العشر التي هي في أمس الحاجة إليها؟"
فأجاب الأب:  "الحق معك." وبتلك الإيماءة الخالدة من الأزواج المغلوبين،  فتح الأب حافظة نقوده وقال:  "تفضلي،  هذه ورقة من فئة العشر روبيات.  أعطيها لتلك المرأة مع دعائي بالخير."
كان الوالد يميل إلى الرد سلباً على كل مشروع جديد.  وذلك الموقف الذي اتخذه تجاه تلك الغريبة التي فازت على الفور بعطف أمي كان مثالاً على تحفظه وحذره الاعتياديين.  فعدم القبول الفوري هو في الحقيقة تكريم لمبدأ إمعان النظر والتفكر في الأمور.  وقد وجدت أبي معقولا دائما ومتزنا في أحكامه.  فكنت إذا ما دعمت طلباتي المتعددة بحجة قوية أو أكثر وضع بغير تردد في متناول يدي الأمنية المرغوبة،  سواء كانت  رحلة أو دراجة نارية (موتوسيكل).
وكان أبي مربيا صارما لأولاده في سني طفولتهم،  إلا أن موقفه تجاه نفسه كان متسما بالبساطة والاقتصاد في الإنفاق والكلام وضبط النفس وبالحزم والجلـَد وبالبعد عن الترف.  مثال على ذلك لم يزر المسرح أبداً في حياته،  بل كان ينشد التسلية في ممارسات روحية مختلفة وفي مطالعة البهاغافاد غيتا(6).  وكان يتحاشى سائر ضروب التبذير،  فيستعمل زوجا واحدا من الأحذية حتى يبلى تماما قبل استبداله.   وفي حين ابتاع أبناؤه السيارات بعد أن عم استعمالها ظل أبي قانعا بعربة الترولي في ركوبه اليومي إلى مكتبه.  أما تكديس المال من أجل النفوذ فقد كان مغايرا لطبعه وطبيعته.  وذات مرة بعد أن قام بتنسيق بنك كلكتا المدني أبى الحصول على أي من أسهم البنك مكافأة لجهوده،  إذ كان من أعظم أمانيه القيام بواجب وطني في ساعات فراغه.
وبعد بضع سنوات من تقاعد الوالد،  وفد محاسب إنكليزي إلى الهند لفحص دفاتر شركة سكة الحديد بنغال – ناغبور  فوجد المفتش المندهش أن أبي لم يطلب أية مكافأة لقاء أعماله الإضافية،  وقد أخبر المحاسب الشركة بما يلي:
"لقد قام بعمل ثلاثة رجال ويستحق تعويضا قدره 125000 روبية (ما يعادل 41250 دولارا).  وأرسل أمين الصندوق لأبي تحويلا مصرفيا بهذا المبلغ،  فلم يكترث والدي به لدرجة أنه لم يذكر عنه شيئا للأسرة.  وعندما لاحظ أخي الأصغر بشنو هذه الوديعة الكبيرة في إحدى الإفادات المصرفية،  استفهم عنها من والدي فأجابه الوالد:
"لماذا نبتهج بالمنافع المادية؟ إن من يسعى في طلب العقل المتزن لا يطرب للكسب ولا يكتئب للخسارة؛ فهو يعلم أن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا صفر اليدين ويغادرها كذلك".
وقد تتلمذ والداي في مستهل حياتهما الزوجية على معلم بنارس العظيم لاهيري مهاسايا،  فعززت تلك العلاقة الروحية المزاج الزهدي المترسخ أصلا في طبيعة أبي.  وفي إحدى المرات أدلت أمي لأختي الكبرى روما بهذا الاعتراف العجيب:  "إن أباك وأنا نعيش معا كزوج وزوجة مرة واحدة في السنة فقط من أجل إنجاب الأطفال".
وقد تعرف والدي على لاهيري مهاسايا عن طريق أبيناش بابو(7) الموظف بسكة حديد بنغال ناغبور.  وفي غوراخبور سمعت من أبيناش قصصا مذهلة عن العديد من القديسين الهنود،  وكان دوما يختتم كل قصة بتمجيد وتبجيل معلمه الفائق.
"ألم تسمع بالظروف الخارقة التي أصبح فيها والدك تلميذا للاهيري مهاسايا؟"
كان ذلك في أصيل أحد أيام الصيف وأنا أجلس مع أبيناش في فناء منزلنا حينما فاجأني بهذا السؤال المحيّر.  فهززت رأسي بابتسامة وكلي شوق لمعرفة المزيد،  فقال:
"قبل أن تولد بسنوات سألت أباك – رئيسي الأعلى – أن يمنحني إجازة لمدة أسبوع من واجباتي المكتبية كي أقضيها في زيارة معلمي في بنارس،  ولكنه سخر من فكرتي وسألني قائلا:  ’هل ترغب في أن يستحوذ الهوس الديني على عقلك؟ ركـّـز اهتمامك على عملك إن كنت تبغي التقدم والترقي‘.
"وسرت مكتئبا إلى بيتي في طريق مظلل بالأشجار حيث التقيت بأبيك وقد صرف الخدم مع العربة وسار بجانبي محاولا مواساتي وموضحا فوائد العمل لبلوغ النجاح الدنيوي.  ولكني أصغيت إليه بذهن شارد،  إذ كان قلبي يردد:  لاهيري مهاسايا،  لا أستطيع العيش دون رؤيتك!
"سرنا حتى بلغنا حقلا هادئا حيث كانت شمس الأصيل تتوج النبات الطويل المتماوج،  فوقفنا نتأمل ذلك المنظر الرائع.  وفجأة بزغ في الحقل على قيد خطوات منا شكلُ معلمي العظيم(8) وقال مخاطبا أباك:
’بهاغاباتي،  إنك قاسٍ جدا في معاملة موظفك‘!
"وقد دوى صوته في آذاننا الذاهلة ثم اختفى شكله بنفس الكيفية الغامضة التي ظهر بها.  فجثوت ساجدا وأنا أهتف:  ’لاهيري مهاسايا! لاهيري مهاسايا.،
"أما أبوك فقد أصبح لبضع لحظات ذاهلا عديم الحركة.  ثم قال بعد لحظة:
’أبيناش،  سأسمح ليس لك فقط،  بل لنفسي أيضا بالذهاب إلى بنارس غدا.  فيجب أن أتعرف على هذا العظيم لاهيري مهاسايا الذي له القدرة على تجسيد ذاته بإرادته كي يتشفع لك! وسوف أصطحب زوجتي وأطلب من ذلك المعلم أن يلقننا مبادئ طريقه الروحي.  فهل لك أن تأخذنا إليه‘؟
"أجبته:  بكل سرور!  والفرح يغمر قلبي للاستجابة المعجزة تلبية لصلواتي وللتحول الإيجابي السريع للأحداث.  وفي مساء اليوم التالي ركبت مع أبويك القطار إلى بنارس،  وإذ وصلنا بعد ذلك بيوم أخذنا إحدى عربات النقل لمسافة ما وسرنا بعدها على الأقدام في أزقة ضيقة إلى منزل معلمي المنعزل.  وإذ دخلنا حجرته الصغيرة انحنينا أمام المعلم الذي كان متربعا في وضع اللوتس الاعتيادي وقد رمش عينيه النفاذتين ثم سددهما نحو أبيك قائلا:  ’بهاغاباتي،  إنك قاس جدا في معاملة موظفك‘!
"وكانت تلك نفس الكلمات التي استخدمها منذ يومين في الحقل المعشب.  ثم أضاف:  ’إنني مسرور لأنك سمحت لابيناش بزيارتي وأنك رافقته أيضاً مع زوجتك.‘
"ولفرط سرور أبويك فأنه لقنهما التدريب الروحي لعلم كريا يوغا(9).  وكأخوين في التلمذة فقد أصبحت وأبوك صديقين حميمين منذ يوم الرؤيا المجيدة.  وقد أبدى لاهيري مهاسايا اهتماما خاصا بمولدك.  وبكل تأكيد فإن حياتك مرتبطة بحياة ذلك المعلم العظيم الذي لا تخيب بركاته أبدا."
غادر لاهيرى مهاسايا هذا العالم بعد دخولي إليه بقليل.  وكانت صورته الموضوعة في إطار مزخرف تزيّن دوما محراب أسرتنا في المدن المختلفة التي دعت مقتضيات عمل والدي انتقالنا إليها.  وكم من صباح ومساء جلست مع أمي نتعبد أمام هيكل مرتجل ونقدم الزهور المغموسة  في عجينة خشب الصندل الطيب الرائحة مع البخور واللبان إضافة إلى أشواقنا المشتركة تكريما للإلوهية التي ظهرت كاملة في لاهيري مهاسايا.
وكان لصورته أبلغ الأثر في حياتي.  وكنت كلما تقدم بي العمر تطور تفكيري بالمعلم.  وفي التأمل كنت غالبا أرى رسمه الفوتوغرافي يبرز من إطاره ويتمثل بشرا سويا متربعا أمامي،  حتى إذا ما حاولت لمس قدمي الجسم المنير تغيّر وتحول ثانية إلى صورته.  وإذ تحولت الطفولة إلى الشباب وجدت لاهيري مهاسايا قد تبدل في عقلي من شكل في إطار إلى وجود حي مانح للاستنارة الروحية.  وعندما كنت أتوجه إليه بالدعاء في أوقات الشدائد أو المحن كنت أجد في داخلي إرشاده المواسي.
في البداية كنت أشعر بالحزن لأنه لم يكن موجودا بجسمه المادي،  ولكني كففت عن ذلك حينما أدركت وجوده الكلي.  وأحيانا كان يكتب لتلاميذه المتلهفين شوقا لرؤيته العبارة التالية:
"لماذا تأتون لرؤية عظامي،  في حين أنني معكم وفي متناول بصركم الروحي على الدوام؟"
وقد بوركت حول الثامنة من عمري بشفاء عجيب عن طريق صورة لاهيري مهاسايا،  وقد عزز ذلك الاختبار من يقيني وضاعف حبي له.  فحينما كنت في منزل الأسرة في إيشابور بالبنغال أصبت بالكوليرا الآسيوية،  وقد يأس الأطباء من شفائي.  وبجانب فراشي وقفت أمي تحثني بقوة كي أتطلع إلى صورة لاهيري مهاسايا المعلقة فوق رأسي وتقول:  "اسجد له بعقلك." وكانت تعلم أنني كنت ضعيفا لدرجة أنني لم أتمكن من رفع يدي بالتحية،  فقالت:  "إنك إن أعربت عن خشوعك وركعت أمامه في روحك فلن تفقد حياتك!"
نظرت إلى صورته فرأيت بها نورا وهاجا يخطف الأبصار،  غمر جسمي والغرفة معا.  وفي تلك اللحظة بالذات فارقني الغثيان واختفت الأعراض القوية الأخرى  فأصبحت سليما معافى.  وعلى الفور شعرت بقوة مكنتني من الانحناء ولمس قدمي والدتي تقديرا لثقتها المطلقة بمعلمها.  وقد ضغطت أمي برأسها مرارا وتكرارا على الصورة الصغيرة مرددة:
"أشكرك أيها المعلم الكلي الحضور لأن نورك قد جلب الشفاء إلى ولدي!" وقد تحققت إذ ذاك أن أمي قد رأت أيضا البريق الساطع الذي أبرأني فورا من مرض فتاك في العادة.
ومن بين أثمن مقتنياتي نفس هذه الصورة التي ناولها لاهيرى مهاسايا بنفسه لوالدي،  وهي تحمل خفقة قدسية مباركة.  وللصورة قصة عجيبة سمعتها من كالي كومار روي الذي كان أخاً لأبي في التلمذة.
يبدو أن المعلم كان غير راغب في أن تؤخذ صور له.  لكن أحدهم قام – خلافا لرغبته - بالتقاط صورة له مع مجموعة من تلاميذه من بينهم كالي كومار روي.  وقد بهت المصور حينما اكتشف أن لوح التصوير الذي ظهرت عليه صور التلاميذ لم يكن في وسطه سوى فراغ أبيض حيث توقع المصور أن يجد ملامح لاهيرى مهاسايا.  وقد نوقشت هذه الظاهرة غير العادية على نطاق واسع.
غير أن غانغادهار بابو  التلميذ والمصور البارع تباهى بأن الشكل الشارد لن يتمكن من الإفلات من آلة تصويره.  ففي الصباح التالي بينما كان المعلم يستوي على مقعده الخشبي في وضع اللوتس وخلفه ستارة،  أتى غانغادهار بآلة تصويره،  وبعد اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة التي تكفل له النجاح أخذ له – بنـَهَم – اثنتي عشرة صورة.  لكنه مرة أخرى وجد على جميع الألواح رسم الستارة والمقعد الخشبي دون شكل المعلم.
وبدموع وكبرياء  محطم قصد غانغادهار بابو معلمه.  وانقضت ساعات قبل أن يقطع لاهيري مهاسايا حبل السكون بتعليق ذي مغزى!
"إنني روح،  فهل يستطيع جهاز تصويرك التقاط غير المنظور،  الكلي الوجود؟"
أجاب غانغادهار بابو:  "أرى أنه لا يستطيع! ولكنني يا سيدي القديس أطمع من كل قلبي في الحصول على صورة لهيكلك الجسماني.  لقد كانت رؤيتي قاصرة فلم أدرك لغاية اليوم أن الروح الإلهي يسكن بك بكليته."
فقال لاهيري مهاسايا:  "تعال إذاً في صباح الغد،  وسأجلس خصيصا لك."
جاء المصور مرة أخرى وصوّب جهاز تصويره.  وفي هذه المرة ظهر الشكل المقدس جلياً على اللوح دون أن تحجبه الأسرار الغامضة.   ولم يجلس المعلم قط للتصوير بعد ذلك،  أو على الأقل لم أر له صورة أخرى.
وهذه الصورة ذاتها منشورة في هذا الكتاب(10).  وتقاطيع لاهيري مهاسايا الوسيمة ذات القالب العام لا تنبئ بسهولة عن السلالة التي ينحدر منها.  وتتجلى غبطته الفائقة في الوصال الإلهي في ابتسامته الملغزة.  أما عيناه نصف المفتوحتين دلالة على اهتمامه الطفيف بالعالم الخارجي فهما أيضا نصف مغلقتين إشارة إلى استغراقه في الغبطة الباطنية.  وإذ كان مترفعاً عن الإغراءات الدنيوية الزهيدة فقد كان يقظا في كل الأوقات للمشكلات الروحية للباحثين الذين كانوا يقصدونه لفضله وكرمه. 
وبعيد شفائي بفضل الله وصورة المعلم رأيت رؤيا روحية مؤثرة.  فإذ كنت أستوي فوق فراشي ذات صباح استغرقت في التفكير العميق متسائلا:
"ما الذي يكمن خلف ظلمة العينين المغمضتين؟"
اكتسحتني قوة هذا التفكير الدقيق العميق،  وعلى الفور تلألأت ومضة هائلة من النور لبصري الداخلي أظهرت لي الأشكال المقدسة لقديسين يتربعون متأملين في كهوف الجبال.  وراحت تمر كصور سينمائية مصغرة على الشاشة الكبيرة المشعة وسط جبيني.  وهتفت بصوت عال:  "من أنتم؟"
فجاء الجواب السماوي الذي تعجز الكلمات عن وصفه:  "نحن رجال الله:  يوغيو الهملايا".   فقلت متلهفا:
"آه كم تهفو نفسي للمضي إلى الهملايا للانضمام إلى حلقتكم المباركة!" وتلاشت الرؤيا غير أن الأشعة الفضية امتدت عل شكل دوائر تزداد اتساعا في الفضاء اللانهائي.  فقلت:
"ما هذا التوهج العجيب؟" وجاء الرد هامسا:
"أنا إسوارا(11):  النور الكوني."  فقلت:
"نفسي تشتاق إليك وتتوق للتوحد معك!"
ومن التلاشي التدريجي لنشوتي الروحية حصلت على ثروة دائمة من الإلهام دفعتني إلى البحث عن الله بصفته البهجة الأبدية الدائمة التجدد طوال الدهور.  وقد ظلت هذه الذكرى في نفسي لفترة طويلة بعد انقضاء ذلك السرور الغامر.
وهناك تذكار بارز قديم.  وهو بالفعل كذلك،  إذ ما زلت أحمل أثر الندبة حتى هذا اليوم.  ففي صباح باكر كنت أجلس من شقيقتي الكبرى روما تحت شجرة نيم في فناء منزل غوراخبور.  وكانت الأخت تساعدني في قراءة  كتاب ابتدائي في البنغالية في الوقت الذي كنت أنظر إلى الببغاوات القريبة وهي تأكل ثمار المارغوزا الناضجة.  وكانت شقيقتي أوما تشكو من بثرة في ساقها وقد استحضرت لها زجاجة من المرهم.  فأخذتُ بعض المرهم  وفركت به ساعدي.  فقالت أوما:  "لماذا تضع الدواء على ساعد سليم؟" فأجبتها:
"أحس يا أختاه بأن بثرة سوف تنمو غدا،  وإنني أقوم بتجريب مرهمك على نفس البقعة التي سوف تظهر بها البثرة." فأجابت:
"يا لك من كاذب صغير!" فقلت وقد تملكني السخط:
"لا تدعينني كاذبا يا أختاه قبل أن تتبيني ما سوف يحدث في الصباح."
لم تكترث أوما لكلماتي بل كررت توبيخها الساخر لي ثلاث مرات.  لكن تصميما قويا رن في نبرات صوتي وأنا أجيب في تؤدة:
"قسما بالإرادة التي في داخلي أن بثرة كبيرة سوف تنمو في نفس هذه البقعة من ساعدي،  وسوف تنتفخ بثرتك إلى ضعف حجمها الحالي!"
أطل الصباح،  وإذ ببثرة كبيرة تنمو في نفس البقعة التي حددتها،  في حين تضاعف حجم بثرة أوما.  وبصرخة مدوية اندفعت الأخت صوب أمي قائلة:  "لقد أصبح موكندا ساحرا!"
وقد نصحتني أمي برصانة كي لا أستخدم الكلام أبدا في إلحاق الأذى.  ولا زلت أذكر نصيحتها وأعمل بها دوما.
عولجت بثرتي بعملية جراحية وترك مبضع الطبيب ندبا ظاهرا حتى اليوم،  فعلى ساعدي الأيمن مذكـّرُ دائم بالقوة الكامنة في مجرد كلمة الإنسان.  فتلك الكلمات البسيطة التي بدت عديمة الضرر،  والتي خاطبت بها أختي أوما بانتباه عميق حملت في تضاعيفها قوة كامنة تفجرت كالقنبلة وتركت آثارا أكيدة لكنها ضارة.  وقد أدركت فيما بعد أن قوة الكلام الكامنة المتفجرة يمكن توجيهها بكيفية سديدة لكي تخلص الإنسان من المشكلات والمعضلات،  وبذا تعمل دون جرح أو توبيخ.(12)
انتقلت الأسرة إلى لاهور بالبنجاب،  وهناك حصلت على صورة للأم الإلهية في شكل الآلهة كالي(13)،  وقد كرست لها معبدا بسيطا في شرفة منزلنا.  وقد تملكني اعتقاد جازم أن كل طلباتي التي أنطق بها في تلك البقعة المباركة ستستجاب.  وإذ كنت أقف يوما في الشرفة مع أوما رأيت طائرتين ورقيتين تحلقان فوق أسطح المنازل التي على الجانب الآخر للزقاق.
ودفعتني أوما مازحة:  "لماذا تقف هكذا صامتا؟" فقلت:
"إنني أفكر الآن كم هو رائع أن تعطيني الأم المقدسة كل ما أطلبه!"
وضحكت الأخت هازئة:  "أظن أنها سوف تعطيك هاتين الطيارتين!"
فقلت:  "ولمَ لا؟" وشرعت في تضرعات صامتة للحصول عليهما.
تقام المنافسات في الهند بطيارات ورقية تطلى خيوطها بالغراء ومسحوق الزجاج.  ويحاول كل لاعب قطعَ الحبل الذي يمسكه منافسه فتسبح الطيارة الطليقة فوق السطوح حيث يستمتع الناس كثيرا بالإمساك بها.  وإذ كنت مع أوما فوق الشرفة الداخلية المسقوفة فقد بدا من المستحيل أن تسقط في أيدينا أية طيارة طليقة،  لأن خيطها يتدلى فوق السطوح بكيفية طبيعية.
وشرع اللاعبون على جانبي الزقاق بمناوراتهم،  وقد قـُطع أحد الحبال.  وعلى الفور سبحت الطيارة في اتجاهي وسكنت برهة بسبب التوقف المفاجئ للهواء مما جعل الحبل يشتبك بنبتة الصبار فوق المنزل المقابل.  وأصبح الحبل بذلك في متناول يدي فناولت الغنيمة لشقيقتي.
وقالت أختي:  "إنها في الواقع حادثة شاذة وليست استجابة لتضرعاتك.  سوف أثق لو جاءت الطيارة الثانية إليك".  وكانت عيناها الداكنتان تحملان من الدهشة أكثر مما تحمله كلماتها.
واصلت توسلاتي بهمة أكبر،  وحدث أن قام اللاعب الآخر بجذبة قوية أفقدته طيارته التي اتجهت نحوي متهادية فوق أمواج الهواء.  ومرة ثانية قامت الصبارة بمعاونتي فأمسكت بحبل الطيارة وقدمتها جائزة ثانية لشقيقتي التي قالت:
"حقا إن الأم الإلهية تستمع إليك وتستجيب لدعائك بكيفية لا أفهمها!"
وانطلقت هاربة كظبي مرتعد.

حواشي الفصل 1    Footnotes for Chapter 1

(1)     يـُطلق لقب غورو Guru في الهند على المعلم الروحي المستنير.  وتصف الفقرة 17 من كتاب الغوروغيتا  الغورو وصفا دقيقا وملائما بأنه (مبدد الظلام).  والتسمية مشتقة من الكلمتين السنسكريتيتين (غو:  الظلام) و (رو:  الذي يبدد).

(2)     اليوغي Yogi هو ممارس اليوغا (الاتحاد):  العلم القديم للتأمل على الله.  راجع الفصل 26 (علم الكريا يوغا).

(3)     تغير إسمي في سنة 1915 إلى يوغانندا حينما انخرطت في سلك السوامي القديم.  وفي سنة 1935 خلع عليّ مرشدي اللقب الديني (برمهنسا) راجع الفصل 24 و الفصل 42.

(4)     الكشاتريا هي الطبقة الثانية من الطبقات الهندوسية.  وهي في الأصل طبقة الحكام والمحاربين.

(5)     المهابهاراتا والرامايانا هما من ذخائر تاريخ الهند وأساطيرها وفلسفتها.

(6)     البهاغافاد غيتا هي القصيدة السنسكريتية السامية التي تكوّن جزءا من شعر المهابهاراتا الحماسي وهي كتاب الهندوس المقدس.  وقد كتب عنها المهاتما غاندي يقول:  "إن الذين يتأملون الغيتا يستمدون منها يوميا غبطة ومعاني جديدة.  لا توجد عقدة روحية واحدة تعجز الغيتا عن حلها."

(7)     بابو (سيد) تلحق عادة بالأسماء البنغالية.

(8)     القوى الخارقة التي يمتلكها المعلمون العظماء مشروحة في الفصل الثلاثين:  قانون المعجزات.

(9)     الكريا يوغا هو تدريب يوغي لقنه لاهيري مهاسايا بغية تهدئة عاصفة الحواس ومساعدة المريد على بلوغ اتحاد متزايد بالوعي الكوني.  راجع الفصل 26.

(10) راجع الفصل 33.  إن نسخا من هذه الصورة بالذات (صورة لاهيري مهاسايا) يمكن الحصول عليها من المقر العالمي لجماعة معرفة الذات في لوس انجلوس بكاليفورنيا،  الولايات المتحدة.

(11)  إسوارا هو الاسم السنسكريتي لله في مظهر الحاكم الكوني.  من الأصل (اس) يحكم،  يسود.  وتشمل كتب الهنود ألف إسم لله يحمل كل منها لونا مختلفا من المعاني الفلسفية.  والله في مظهر اسوارا هو الذي تـُخلق الأكوان وتنحل بإرادته في أدوار كونية منتظمة.

(12)  تشتق فاعليات الصوت اللامتناهية من الكلمة الخالقة (أوم) وهي القوة الكونية المهتزة خلف سائر القوى الذرية.  فكل كلمة يتم النطق بها بإدراك نقي وجلي وتركيز دقيق وعميق لها قيمة تجسيدية.  فالتكرار الجهير أو الخفيض أو الصامت للكلمات الملهمة ثبتت فاعليته في منهج    Coueismوفي مناهج مماثلة للشفاء النفساني.  والسر في ذلك يعود إلى تصعيد أو مضاعفة السرعة التموجية للعقل.

(13)  كالي:  أحد رموز الله في مظهر الأم:  الطبيعة الأزلية.
 





No comments:

Post a Comment