Friday, July 1, 2011

برمهنسا يوغانندا: الصيام صحة وصحوة

الصيام صحة وصحوة

ووهمية المادة

'

المعلم برمهنسا يوغانندا

ترجمة: محمود عباس مسعود

مزيد من تعاليم المعلم برمهنسا يوغانندا Paramahansa Yogananda

على الرابط التالي: www.swaidayoga.com

"عليكَ بالصيام فإنـَّهُ لا مِثلَ لـَهُ" حديث شريف

[هذا الموضوع لا يناقض الصيام كما ورد في القرآن الكريم ولا يدعو أحداً لترك طريقة صيامه التقليدية التي نحترمها ونحترم الصائمين داعين الله أن يباركهم دوماً ويتقبل صيامهم. المقصود هنا هو الصوم العلاجي من أجل نتائج محددة جسدياً وروحياً ولذلك اقتضى التنويه.]

النتائج الجسدية والإختبارات الروحية للصيام رائعة مدهشة. فالروح تتحلل من متطلبات الجسد عندما يتحرر من العادات الكثيفة الخشنة. لقد أكملتُ اليوم الثلاثين من الحمية والصيام ويبدو الأمر طبيعياً كما لو أنني لم أذق طعم الطعام قط.

كل واحد ممن له المقدرة يجب أن يحاول الصوم لثلاثة أيام أو أطول من ذلك إن كان ممكناً، وسيجد تدريجياً أن العيش بدون طعام ممكن.

الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة لا ينبغي أن يواجهوا صعوبة في الصيام لثلاثة أيام. الصيام الطويل يجب أن يتم بإشراف أخصائي في هذا المجال. وكل من يعاني من أمراض مستعصية أو عجز عضوي يجب أن يصوم فقط بعد استشارة طبيب خبير في الصيام والتغذية.

الآلام والأوجاع الجسدية هي مؤشر على وجود خلل ما في أجهزة الجسم وإلى الحاجة إلى الترميم والصيانة. الناس يحتفظون بسياراتهم نظيفة وجيدة الصيانة! الجسم البشري أكثر تعقيداً ودقة من أي سيارة، والله يريدنا أن نحتفظ به نظيفاً وبحالة عمل جيدة أيضاً، معتمدين في نفس الوقت أكثر فأكثر على قوة الله. إن سر الصحة الجيدة لا يكمن وحسب في العناصر الكيماوية بل ينبغي الإعتماد على قوة الله أو طاقة الحياة داخل الجسم.

قوة الحياة هذه التي في أجسامنا هي في الحقيقة مصدر الحياة. إنها قوة دائمة تخلق – بأمر الله – الأعضاء وتبقيها مزودة بالحيوية. قوة الحياة يتم تعزيزها بقوة العقل والطعام. لكنها إذا ما أسيء استعمالها فإنها تكف عن أداء وظيفتها وترفض العمل بعد ذلك. فقوّتها قد تضعف في العينين على سبيل المثال وعندها تتعذر الرؤية بوضوح. ما من طعام يمنح القوة، وما من تغيير هواء ينعش الخلايا ويجدد الحيوية، ولا شيء يقدر على إعادة الطاقة إلى الجسد عندما تأخذ قوة الحياة الكامنة به في التضاؤل.

الصيام يريح الأعضاء المنهوكة مثلما يريح أجهزة الجسم وقوة الحياة نفسها فيحررها من العمل الإضافي. عندما تتوقف عن الإيحاء لقوة الحياة بأنه ينبغي لها الإعتماد في وجودها على المصادر الخارجية من غذاء وماء وأوكسجين وأشعة شمس، تصبح متحررة وتعتمد على ذاتها.

الإفراط في تناول الطعام لثلاثمائة وخمسة وستين يوماً في السنة ينتج ضروباً متعددة من المرض. المثابرة على الأكل سواء كان الجسم بحاجة له أم لا هو بالحقيقة لعنة للجسد. كلما ركز الإنسان على حاسة الذوق وحاول إشباعها كلما كثرت أمراضه. جيد أن يستمتع الشخص بالطعام، لكن العبودية للطعام له مضاعفات أليمة ونتائج وخيمة. وهكذا يؤذي الإنسان نفسه بنفسه جراء تعلقه بالجسد وبمتطلباته. آن الأوان لأن يدرك الإنسان أن قوة الحياة هي التي تعيل الجسد وتبقيه زاخراً بالحيوية نابضاً بالنشاط.

يجب أن نضع – دون هوس – التأكيد الأكبر على العقل لتعزيز قواه وجعلها أكثر اعتمادية. أما إن أصرّ الإنسان على جعل عقله عبداً للجسد فإن العقل سيثأر لنفسه عن طريق التخلي عن قوّته، مما يعني اضطرار الشخص للإعتماد على شخص آخر أو على شيء آخر لمساعدته. ولن يستطيع أي طبيب أو أي دواء تقديم المساعدة لأي مريض إن كان عقله قد أصبح ضعيفاً لدرجة استفحال المرض. إن ثلاثة أرباع العلاج تكمن في العقل.

في الهند نتعلم قهر الجسد بالإرادة بحيث يتسنى للشخص الإعتماد إلى درجة كبيرة على العقل. الذين يلجأون دوماً للوسائل المادية من أجل الصحة والشفاء سيتعودون عليها وبالتالي يعتمدون عليها دوماً. لكن القدرة العقلية هي الأسمى. يجب أن يتعلم المرء تدريجياً الإنتفاع إلى أقصى حد من العقل وقدراته، عندها سيدرك أن العقل أداة فائقة وسيفعل العقل كل ما تطلبه منه. هذا رأيته ولمسته في حياتي الشخصية.

كنت ذات يوم ألقي محاضرة وكان الطقس حاراً للغاية ووجهي يتصبب عرقاً، ولم أتمكن من العثور على منديلي. وللحظة تعذر الأمر، لكني وضعت انتباهي الكلي في مركز الإرادة (في الجبهة ما بين الحاجبين) وصليت في نفسي: "يا رب، بفضل نعمتك فإن جسدي بارد!" وعلى الفور اختفى العرق وأصبح جسمي بارداً كما يجب! لذلك في الإعتماد على العقل فائدة فائقة! مع ذلك يجب أن لا يتطرف الشخص وينكر الجسد كلياً، لإنه إن فعل لعجز عن التفكير والأكل والحركة.

البعض يرغبون في إثبات سيطرة العقل على الجسد قصد البرهنة على الصحة بالدرجة الأولى. لكن الصحة ليست غاية الحياة. التوصل إلى الله هو غاية الحياة. قد يشعر الواحد أنه معافى لفترة ما، ولكن يأتي وقت عندما لا ينفعه شيء. عندها من الذي سيساعده؟ الله. الصيام هو أحد الطرق العظيمة للتقرب من الله. إنه يحرر قوة الحياة من الإستعباد للطعام، مؤكداً لنا أن الله هو من يعيل أجسامنا ويبقيها مفعمة بالحياة.

لكن العادات قوية مستحكمة بحيث ما أن يفكر العقل بالطعام حتى ترغب في الأكل على الفور. ذات مرة، عندما كنت صبياً صغيراً في الهند أصبت بالزكام. وأردت تناول بعض التمر هندي الذي يعتبر سيئاً جداً للزكام. رفضت شقيقتي بعناد، لكن بسبب إصراري أحضرت لي بعضاً من تلك الفاكهة. فمضغت قطعة منها ثم لفظتها دون أن أبتلعها، لأن الرغبة في المذاق قد تحققت. الإنسان غالباً ما يتحكم به الشره. ومن سوء حظه أن الله لم يخلق الجسد بكيفية تمكنه من التمتع بحاسة الذوق والإفراط الضار أو تناول الغذاء غير النافع دون أن يصاب الجهاز الهضمي والأعضاء الأخرى بأذى.

لكن في الحقيقة الطريقة الوحيدة للصحة والسعاة.. الطريقة الأكثر حكمة هي ضبط النفس. إذ من أعظم الإنجازات التي يمكن أن يحرزها الإنسان هي أن يكون سيد نفسه، غير خاضع لهيمنة حواسه. إن قمت بتسليط شحنة كهربائية زائدة على جهاز لا قدرة له على تحمل تلك الطاقة المفرطة فإنه سيحترق. وبالمثل ففي كل مرة تشحن جهازك الهضمي بالكثير من الطعام تحترق قوة الحياة الموكلة بعملية الهضم. عندما تتوقف عن الإفراط في تناول الطعام وعندما تصوم تستريح قوة الحياة ويعاد شحنها بالطاقة الكونية.

إن تعطلت سيارتك ترسلها إلى ورشة التصليح، وبعد القيام بالإجراءات اللازمة تشتغل بصورة أفضل لبعض الوقت إلى أن يتعطل فيها شيء آخر، فترسلها ثانية لمزيد من الصيانة والتصليح. وهكذا يجب معاملة الجسد. النتائج الجسدية للصيام مدهشة. إن صياماً لثلاثة أيام على عصير البرتقال سيرمم الجسد بصورة وقتية. ولكن صياماً طويلاً سيصلحه كلياً، وستشعر بأن جسمك قوي كالفولاذ. وإن كنت ترغب في الصحة الدائمة فينبغي أن تراقب دوماً نوعية وكمية الطعام الذي تتناوله.

يجب أن تعرف ما ينبغي عمله أثناء الصيام. فالإشراف الطبي ضروري بالنسبة للذين يرغبون بالصيام لفترة تزيد عن ثلاثة أيام. إنني لا أنصح أحداً بجعل صيامه الأول طويلا لأنه سيشعر بالضعف والإعياء. إن صياماً ليوم واحد في الأسبوع على عصير الفاكهة أو لثلاثة أيام متتالية كل شهر على عصير البرتقال هما طريقتان جيدتان لتعويد نفسك على الصيام. على الصائم أن يكون مستعداً نفسياً للتعامل مع المتعاطفين معه الذين سيؤكدون له بأنه سيمرض أو سيموت (لا سمح الله) إن لم يأكل. صحيح أنك قد تشعر بالضعف خلال صيام طويل، لكن ذلك يحدث في الأيام القليلة الأولى لأن قوة الحياة قد تعودت على الغذاء. ولكن تدريجياً ومع مرور الأيام تفقد أي شعور بالوهن. فقوة حياتك وروحك تصبحان منفصلتين عن الطعام وتجد أن الجسد يعال فعلا بقوة الحياة.

إنني أعرف السر الذي بواسطته يستطيع الشخص أن يصوم دون أن يفقد أياً من وزنه. فعندما يتم التحكم تحكماً واعياً بقوة الحياة يمكن استخدامها للتقليل من وزن الجسم أو للإحتفاظ به كما هو. فعند استخدام هذه الطريقة لا تنخفض درجة حرارة الجسم الطبيعية مهما طالت فترة الصيام. وإذ يتم سحب الطاقة الكونية عن طريق منفذ خاص في الجسم فإن قوة الحياة تتجدد بتلك الطاقة بدلا من اعتمادها على مصادر خارجية.

الحياة خالدة ولا تعتمد على التنفس أو على الطعام أو الماء أو أشعة الشمس. لا تنسَ أنك روح لا يمسه الفناء تحيا أولا وقبل كل شيء بقوة الله وليس بأية قوة أخرى.

الوعي يبقى حياً بعد الموت الجسدي، لكن الشخص العادي يفقد ذلك الشعور بالاستمرارية ويظن أنه ميت. كل واحد منا سيعاني الموت الجسدي يوما ما، لذلك لا حاجة للخوف من الموت. إنك لا تتخوف من فقدان الإحساس بالجسد أثناء النوم. بل تتقبل النوم كحالة من التحرر تتطلع إليها بشوق. وبالمثل فإن الموت هو حالة من الراحة.. تقاعدٌ من الحياة. لا يوجد ما يبعث على الخوف. عندما يحين الموت اضحك هازئاً به. الموت مجرد اختبار الغاية منه تعلـُّم درس كبير. أنت روح والروح لا تموت. لا حاجة لانتظار الموت كي يعلمك ذلك ما دام في استطاعتك أن تعرف ذلك الآن. الدرس الأول الذي يجب أن تتعلمه هو أن الحياة لا تتوقف على الطعام. بالصيام يمكنك أن تتأكد من ذلك بنفسك.

كل واحد يجب أن يعمل على تنمية قواه العقلية بحيث يتمكن من القيام بأعماله بشكل أفضل تحت كل الظروف. ينبغي مراعاة النظام والانضباط ومع ذلك يجب أن لا يكون الإنسان متخشباً بل مرناً ومنطقياً في التعامل مع الحياة والظروف.

كل العادات الأساسية للطفل تتشكل ما بين سن الثالثة والسابعة. البيئة الصالحة تساعد على توجيه نموه. لكن تغيير النزعات البارزة تتطلب تدريباً خاصاً.

في مدرستي الخاصة أعطيت الأولاد تدريباً قاسياً من حيث التعامل مع الجسد. فقد كانوا يصومون وينامون على بطانية على الأرض دون استعمال الوسائد. أحياناً كانوا يتأملون لساعات. إن مساعدة الأطفال على التحرر من الاستعباد للجسد هو أمر في غاية الأهمية وبركة لهم مدى الحياة. ذات مرة جلس أحد التلامذة لإثنتي عشرة ساعة في التأمل دون أن يرمش له جفن. مثل هذا الإتزان يمنح سعادة كبيرة. التدريب المثالي يكمن في التهذيب العلمي المتوازن للجسم والعقل والنفس. وفي هذا جوهر الصيام وأهميته.

هناك علم ميتافيزيقي ما ورائي خلف الصيام. الإنسان بالفعل لا يحيا بالخبز وحده. شيئان يبقياننا مقيدين بالأرض: النـَفـَس والطعام. أثناء النوم يغفل الإنسان عن الحاجة إلى التنفس أو الطعام لأن النفس تكون منفصلة عن الوعي الجسدي. الصيام يسمو بالعقل بنفس الكيفية. فمن خلال الصوم يعتمد العقل على قواه الذاتية. عندما تظهر تلك القوى تصبح قوة الحياة في الجسد معززة بالطاقة الأبدية المنسابة باستمرار من الأثير الكوني إلى الجسم عن طريق الدماغ والعمود الفقري.

لدى انفصال قوة الحياة عن المصادر المادية الخارجية لإعالة الجسد تشعر أنها مدعومة من الداخل ويدرك العقل أن المواد الصلبة التي كان يعتمد عليها الجسم ليست سوى مظاهر خشنة ومكثفة للطاقة. عندئذ يتمكن العقل من التعامل مباشرة مع قوة الحياة فيطلب منها إحداث التغييرات المرغوبة في الجسم.

للعقل قدرة على فعل كل شيء. لهذا تمكن السيد المسيح من تغيير الحجارة إلى خبز، مثلما فاض الماء من بين أصابع النبي عليه السلام عندما أدخل يده بإناء فيه ماء قليل وقال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من الله.

لذلك الإعتماد الكلي على الطعام هو إجحاف بحق العقل وقوة الحياة في داخل الإنسان. بالصيام الطويل يدرك الصائم أن كل شيء عقل.

إن كل قوة وكل جسم أو جرم في هذا الكون هو نتاج العقل الإلهي، مثلما أن كل الأشياء التي تراها في الحلم هي من خلق العقل الباطن.

العقل يتحكم بالجسم. فأثناء الصيام إن فكرت بأن جسمك سيضعف جراء الصيام فسيضعف فعلا. وإن فكرت أن الصيام سيوهن قواك ستشعر بالوهن نتيجة لتلك الفكرة.

ولكن إن أقنعت نفسك أن جسمك قوي لن تشعر بالإعياء، بل تشعر بدلا من ذلك بقوة عظيمة منعشة. معظم الناس لا يعرفون هذه الحقيقة لأنهم لم يجرّبوها أبدا.

لن يُظهر العقل معجزاته ما لم تقم بتفعيل قواه. ولن يعمل ما دمت تكثر من الإعتماد على الأشياء المادية. لهذا تبقى عجائبه محجوبة عن الرؤية العادية.

ولكن عندما تتعلم – من خلال الصيام – الإعتماد على العقل ستجده يعمل في كل شيء، سواء في التغلب على المرض أو استجلاب الرخاء والبحبوحة، أو إدراك غاية الحياة السامية: العثور على الله.

من يتمكن من السيطرة على عقله سيتمكن أيضاً من السيطرة على جسمه ومتطلباته، وسيحرز سلاماً روحيا وانعتاقاً من القيود الأرضية التي تكبّل النفس والجسم معاً.

من ناحية أخرى فإن الإعتقاد بعدم وجود المادة وشمولية الروح يجب أن لا يكون مؤسساً على النظريات الغامضة أو التي لا يمكن تعليلها منطقياً، بل يجب ارتكازه على أسس عملية وإدراك ذاتي عميق.

يحقق الناس أنفسهم عادة مع الجسد الذي يعال بالطعام، لكنهم يقصرون عن الإدراك بأن المصدر الرئيسي للجسد هو قوة الحياة. فلا الطعام ولا أية وسيلة خارجية أخرى يمكن أن تبعث الحياة في جسد سُحب منه التيار الكوني.

العلاقة بين جسم الإنسان المادي وعقله هو طاقة أو قوة الحياة. لقد اكتشف حكماء الهند القدامى وجود هذه الطاقة (برانا prana) واستنبطوا العلم المدعو (براناياما pranayama) أي التحكم الواعي بقوة الحياة في الجسد.

السيد المسيح صام في البرية لأربعين يوما. والنبي عليه السلام كان يصوم ويقول: "صوموا تصحوا".

الذين لا يصومون أبدا لا يمكنهم أن يعرفوا بالتجربة أن الحياة ممكنة بدون طعام.

في المراحل الأولى لصيام أسبوع يكون الشعور بالجوع موجوداً. ولكن مع مرور الأيام يتضاءل الشعور بالجوع ويحس الصائم بخفة ونشاط وحيوية وبأنه متحرر من قيود الجسد. لماذا؟ لأن حرمان الجسد من الطعام الخشن يضطره للاعتماد على الغذاء اللامادي: تيار أو طاقة أو نشاط أو قوة الحياة.

إرادة الإنسان هي المولد الأكبر للطاقة. فبقوة الإرادة وبالرغبة التلقائية يتمكن الشخص من الحصول السريع على القوة الروحية من المستودع اللانهائية.

الشخص غير الراغب في القيام بأعماله اليومية يشعر بنقص في النشاط والحيوية. أما الذي يعمل بجد وحماس وبرغبة صادقة في العمل يتخلله التيار الكوني ويشحن جسمه وروحه بمقومات الحيوية.

من يعرف ويمارس أساليب العيش الميتافيزيقية بقوة الإرادة، ويعرف طريقة سحب قوة الحياة بكيفية واعية من مصدرها الكوني الذي لا ينضب، يتحرر من قيود جسدية عديدة.

يقول حكماء ويوغيّو الهند أن المادة هي جوهر عقلي مكثف. وبعضهم أثبت هذه الحقيقة بالبرهان على القدرة على تجسيد وتحليل جسمه وأشياء أخرى بالإرادة.

العلم الحديث أثبت أن المادة مركبة من قوى اهتزازية. العناصر الكيماوية التي تعتبر العوامل التكوينية لكل الصور والأشكال في الكون من حجارة وكواكب حتى الإنسان، ما هي سوى صور مختلفة وأشكال متباينة للإهتزازات الإلكترونية. الجليد على سبيل المثال يتميز بالبرودة والوزن والشكل. بالإمكان رؤيته وملامسته. إذا أذبنا الجليد يتحول إلى ماء. وإن قمنا بغلي الماء يتحول إلى بخار ويصبح بعدها غير منظور. لهذا يمكن القول من وجهة نظر علمية أن الجليد أو الثلج غير موجود مع أنه محسوس بالنسبة لحواسنا. لكن جوهره هو الكترونات غير منظورة أو أشكال من الطاقة.

وبعبارة أخرى، فالذي يمكن إذابته أو حلـّه إلى حالة غير منظورة لا يمكن القول بأن وجوده حقيقي. ومن هذا المفهوم يمكن اعتبار المادة بأنها غير موجودة،لكن وجودها نسبي.

المادة موجودة بالنسبة لعقلنا. إنما في الجوهر هي قوى غير منظورة، لا تفنى ولا تتغير إلا من حيث المظهر والشكل المادي.

وبالمثل فإن العقل البشري والمادة هما مظهران من مظاهر الوعي الإلهي، ولهما وجود شكلي وحسب. لكن الحقيقة هي أنه لا وجود إلا للعقل الكوني.

وكما أن الطفل يولد بواسطة الوالدين، هكذا تعتمد المادة على العقل في وجودها. المادة وليدة العقل الإلهي وتبدو محسوسة للعقل البشري. فبذاتها ومن ذاتها لا حقيقة للمادة لأنها لا تمتلك وجوداً جوهريا.ً

القوى الإلكترونية للمادة بالرغم من كونها غير عاقلة، لكنها تحتوي على اهتزازات قوة الحياة الكونية الواعية بذاتها، والمنبثقة بدورها عن مصدر إلهي.

قال الله (نور السموات والأرض) ليكن نور فكان نور.. هذا معناه أن تركيز العقل الإلهي والإرادة الإلهية أصبحا نوراً أو طاقة مهتزة.

تيار الحياة الكوني والإلكترونات التي اهتزت فيما بعد بقوة أكبر أصبحت القوى الشفافة المتنوعة للطبيعة. وهذه القوى تجسّدت بشكل العناصر المادية الأساسية التي منها يتألف الكون المادي.

المادة حقيقية ومحسوسة بالنسبة للوعي البشري. لكن الإنسان اكتشف بالتجربة والمنطق وبعض التجارب المعملية أنه لا بد من وجود قوة خلاقة دائمة وغير خاضعة للتغيير خلف كل الصور والأشكال الوهمية للعالم المظهري.

هذه الحقيقة يمكن إدراكها بفهمنا لحقيقة المحيط الذي هو موجود مع أن لا وجود لأمواجه كونها مظاهر مؤقتة لجوهر واحد عظيم هو المحيط. لا يمكن للأمواج أن توجد بدون المحيط، لكن المحيط موجود بالأمواج وبدونها.

هذه المفاهيم يمكن استيعابها عقلياً ولكن لا يمكن معرفتها ما لم يتعلم الشخص تحويل المادة إلى قوة حياة، وقوة الحياة إلى وعي كوني كما فعل ويفعل الأنبياء وبعض العظماء وذوو المعرفة الذاتية. فالمادة بالنسبة لأولئك المستنيرين هي غير موجودة بذاتها لأنهم يدركون يقيناً أنه تحت أمواج الخليقة يكمن محيط الروح الثابت وغير الخاضع لقوانين التغيير والتبديل.

الكون في فلسفتيّ الفيدانتا واليوغا هو حلم في وعي الله الأبدي اليقظة (الذي لا تأخذه سنة ولا نوم). المادة والعقل، والكون بنجومه وكواكبه، والأمواج السطحية الكثيفة والتيارات التحتية الشفافة اللطيفة للخليقة المادية، والقوى البشرية للشعور والإرادة والوعي، وحالات الحياة والموت والليل والنهار والصحة والمرض والنجاح والفشل، كلها حقائق طبقاً لقانون النسبية الذي يحكم هذا الحلم الكوني.

إن كل الأمور التي يتم إدراكها بواسطة قانون النسبية هي حقيقية بالنسبة للحالم البشري الذي يلعب دوره الصغير في الحلم الكوني الكبير. ولكي يفلت الإنسان من الوهم الكوني أو قانون النسبية عليه أن يستيقظ من الحلم إلى يقظة الله الأبدية.

لا يمكن أن نغيّر هذا الحلم عن طريق الخيال أو نكران وجوده، أو بقبول الحياة لكن برفض الموت، أو بالاعتراف بالصحة ولكن بتجاهل المرض. إن كل حالة هي جزء لا يتجزأ من حالة نقيضة لها، تماماً كالجانب الآخر للعملة أو لقطعة القماش. الثنائيات غير منفصلة عن بعضها، بل ذات طبيعة متصلة. والباحث عن الحقيقة لا يحاول فصلها في عقله، بل الترفع عنها بالمعرفة والحكمة.

من يريد أن يتقبل فقط المظاهر الإيجابية والسعيدة والمفيدة كحقائق لكون ثنائي الطبيعة هو إنسان مستغرق في أوهام العالم ذي الطبيعة الحالمة.

وكما يحلم الشخص أحلاماً تبدو حقيقية لبعض الوقت، لكنها تفقد صحتها عند انتقاله إلى حالة اليقظة، هكذا من الممكن للإنسان أن يستيقظ من حلم المادة الذي يبدو حقيقياً ويحيا في عالم الروح الحقيقي والعديم التغير.

فقط الإنسان المستكمل الذي تعلم كيفية تمديد وعيه وتحوليه إلى المطلق اللانهائي عن طريق التأمل والإستبحار يمكنه إدراك الخليقة كحلم إلهي. وهو وحده يستطيع القول بمعرفة أكيدة أن لا وجود للمادة. ومع التهذيب النفسي المتواصل وتطوير القدرات الذاتية واتباع تأمل اليوغا العلمي، أو أي طريق آخر للإدراك الروحي، سواء كان طريق الإيمان أو المحبة أو الخدمة أو نكران الذات أو العبادة الصادقة.. يتمكن الباحث عن الله من إذابة الثنائيات ويدرك الوحدة الأزلية خلف كل مظاهر الكثرة والتعداد.

من يتحرر من الوهم الكوني يعرف بأن الله جل وعلا هو الكل في الكل في الوجود فيلامس وعيه الإلهي ويدرك جوهر الحقيقة.

والسلام عليكم.

لقراءة المزيد من الموضوعات رجاء النقر على Older Post أو Newer Post أسفل الصفحة

No comments:

Post a Comment