Sunday, November 9, 2014

الصداقة: الأسس والديمومة



الصداقة: الأسس والديمومة



للمعلم برمهنسا يوغانندا 
PARAMAHANSA YOGANANDA   
  ترجمة: محمود عباس مسعود

الصداقة هي أسمى تعبير بشري لرغبة الله في إظهار حبه للإنسان.
الله يغدق العطف والحنان على الوليد من خلال الأب والأم.. فشعورهما نحو الرضيع فطري غريزي، لأن الله قضى بأن لا يمكن لأبوينا إلا أن يحباننا. أما الصداقة فتأتينا كتعبير نقي عن محبة الله غير المشروطة لنا.
غريبان يلتقيان، وباختيار فوري لقلبيهما يرغبان في مساعدة أحدهما الآخر. هل سبق وحللت هذه الظاهرة؟  إن الرغبة التلقائية المتبادلة للمصاحبة تأتي مباشرة من قانون الجذب الإلهي المقدس.  فأفعال الصداقة المتبادلة والمعززة بين نفسين من حيوات سابقة تخلق تدريجياً رباطاً روحياً يجتذبهما لبعضهما في هذه الحياة – أينما كانوا – بكيفية لا تقاوم.
وما لم يتلوث هذا الدافع بالأنانية والإنجذاب نحو الجنس الآخر، فهو طاهر نقي. لكنه للأسف غالباً ما يكون مشوباً بالاعتبارات غير النقية.
تتفتح الصداقة وتزدهر كزهرة ندية على شجرة مشاعرنا الوجدانية، وتتدنس بالرغبات الفاسدة الكريهة والتصرفات الأنانية الإستئثارية.
فلو وضعتَ نوعاً مغايراً من السماد على  جذور شجرة ما ستأتي الثمار هزيلة سقيمة.  وبالمثل عندما يغذي الشخص شجرة الصداقة بمشاعر الأنانية فإن بواعثه غير الجديرة بالاعتبار تشوه ثمار الصداقة وتلحق بها التلف.  إن الإهتمام بشخص ما لمجرد أنه غني أو صاحب نفوذ وبمقدوره أن يفعل شيئاً ما من أجلنا لا يمكن أن يدعى صداقة. كما أن الإنجذاب لشخص ما بسبب امتلاكه وجهاً جميلاً ليس صداقة أيضا. إذ عندما يفقد ذلك الوجه جاذبيته الفتية الفتانة ستتبخر "الصداقة" وتصبح في خبر كان.
صحيح أنه من الصعب العثور على الصداقة في كل مكان.  بعض الأشخاص تراهم كل يوم ولا تعرفهم أبدا. آخرون تشعر أنك تعرفهم حق المعرفة حتى ولم تقابلهم من قبل. يجب أن يتعلم الإنسان ويدرك ذلك الحدس الباطني الصائب.
احتفظ بعينيك مفتوحتين حيثما كنت، وإن شعرت بانجذاب وجداني صادق نحو شخص ما فيجب تعزيز الصداقة مع ذلك الشخص لأنه كان صديقاً لك من حياة سابقة.
هناك أصدقاء كثيرون عرفناهم من حيوات ماضية، لكن لم تنضج تلك الصداقات في حينها ولم تكتمل بعد.  من الأفضل الشروع في البناء على أساسات تم وضعها سابقاً بدلا من الحفر لإرساء دعائم على رمال التعارف الوقتي.  من السهل أن يفكر الواحد أن له أصدقاء كثر حتى يسببوا له ألماً أو يلحقوا به ضرراً فيشعر عندها بالخيبة المريرة.
(عاشر أناساً بالذكاءِ تميّزوا           واخترْ صديقكَ من ذوي الأخلاق ِ)
هناك العديد من الأشخاص ممن يرتكبون غلطاً في انتقاء الأصدقاء لأنهم منخدعون بالمظاهر السطحية.  الطريقة الوحيدة لتمييز الخلان القدامى هي أن تتأمل وتسأل الله أن يجمعك بهم.  يجب محاولة العثور على الأصحاب بطريقة سليمة مقدسة. هذا معناه تطهير الوعي من كل تفكير بالوجه الجميل أو بأية مظاهر أخرى تعتبرها عوامل جوهرية تحدد مشاعرك نحو الآخرين. إن فعلت هذا ستتمكن ذات يوم بفضل الله من العثور على أصدقاء صادقين حولك أينما كنت، وسيجمع الله أيضاً شملك ولو بالروح مع أصدقاء بعيدين عنك لأن المشاعر النقية لا تخضع لقوانين المادة وغير مقيدة بالزمان والمكان.  وستشعر بحب الله من خلال تلك الوسائل البشرية المتواضعة التي لا تقاومه بل تسمح لمودته بالانسياب من خلالها صافية نقية.  فمن أنقياء القلب تأتي بركات الصداقة المقدسة إليك وتشع بأنوارها عليك.
مستحيل اجتذاب الأصدقاء الحقيقيين ما لم يتم إزالة بقع الأنانية والصفات غير المستحبة من أخلاق الشخص.  إن أعظم فن للمصادقة والتصاحب هو التصرف بكيفية نبيلة محترمة.  هي أن يكون الشخص روحيّ الطباع، نظيفاً في دوافعه ونواياه، غير أناني، بعيداً عن الأوهام والإيهام، وأن يشرع في بناء صرح الصداقة العظيم على الأسس التي سبق وضعها في الماضي البعيد.
(لعمْرُكَ ما شيءٌ من العيش ِ كلـِّهِ
                  أقرَّ لعينيَ من صديق ٍ موافق ِ
وكلّ ُصديق ٍ ليسَ في الله ودّهُ
                  فإننـــــــي في ودّهِ غيرُ واثق ِ)
الصداقة والمودة يجب أن تتواجد في كل العلاقات البشرية:  بين الآباء والبنين، بين الأزواج والزوجات، بين الرجال والرجال، بين النساء والنساء، وبين الرجال والنساء كأخوة وأخوات. إنها خالصة متحررة من القيود والشروط.  عندما تشعر بالرغبة في مصاحبة الآخرين، فالذي تشعر به هو حضور الله.
الصداقة هي دافع إلهي. إن الله لا يكتفي برعاية عياله البشر من خلال الوالدين وبعض الأقرباء لا غير.  إنه يأتي أيضاً بصورة الأصدقاء لكي يمنحنا فرصاً للإعراب عن حب خالص نقي من أعماق قلوبنا.
كلما تضاءلت العيوب البشرية وبزغت الخصال الحميدة في حياة الإنسان، كلما ازداد عدد أصدقائه.  لقد كان الأنبياء والعظماء أصدقاء الجميع، ولكي نكون مثلهم يجب أن ننقي محبتنا من شوائب الأنانية.
عندما نستطيع إقناع الآخرين بمودتنا..
وعندما نتيقن من خلال تجارب الزمن واختبارات أخرى
أن شخصاً ما يودنا فعلا من روحه..
وأننا كذلك نشعر نحو ذلك الشخص بنفس الكيفية..
ليس من أجل مكاسب شخصية بل لمجرد الإحساس بنبض الصداقة..
فإننا نرى انعكاس الله.. ونلمس حضور الله..
ونسمع صوت الله في تلك الصداقة المباركة.
يجب أن لا نسمح لمودتنا بأن تبقى حبيسة شخص واحد، بل ينبغي توطيد دعائم هذه المودة القدسية في الآخرين من ذوي المثل النبيلة.
إن حاولتَ – رعاك الله – بناء صداقة مع شخص سيء القصد والنوايا فسيخيب ظنك.  صاحِبْ الطيبين أولا، ومن بعدها تابع بث مشاعر الإلفة للآخرين حتى تشعر بالمودة نحو الجميع إلى أن تتمكن من القول: "أنا صديق الجميع."
لقد شعر الأنبياء العظام بالمحبة نحو الآخرين فصفحوا الصفح الجميل وأهابوا بالبشر كي يعفوا عن الإساءة ويترفعوا عن المقابلة بالمثل.
الصداقة الصادقة هي محبة مقدسة لأنها نزيهة، نقية، وحقيقية ودائمة.
لقد وصف أحد الفلاسفة الروحيين الصداقة وصفاً رائعاً عندما قال:
"إن أسمى عهد يمكن أن نعقده مع أصدقائنا هو القول: ليكن الحق ما بيننا إلى الأبد. ما أجمل أن نقول عن فلان: ليس من الضروري أن أقابله أو أتحدث إليه أو أراسله لأبرهن له عن صداقتي.. ولسنا بحاجة لإرسال الهدايا لتأكيد صداقتنا وتذكـّر بعضنا.. فأنا أثق به وأعتمد عليه اعتمادي على نفسي أينما كان وكيفما كان.."
باستطاعتنا التحدث بكل راحة وصراحة مع أصدقائنا دون أن يسيئوا فهمنا.  ولكن لا يمكن للصداقة أن تنمو وتترعرع ما دام هناك أي تلميح أو تصريح، أو مطالبة بشيء من الواحد نحو الآخر.
الصداقة لا يمكن بناؤها إلا على أسس من الحرية والمساواة الروحية.  لذلك يجب أن نعامل الجميع على هدي ذلك النور المبارك، مدركين أن كل إنسان هو صورة الله.  إن أسأتَ معاملة شخص ما فلن تتذوق طعم صداقته.
يوجد الكثير ممن يسيرون على دروب الحياة دون أصدقاء.  لا أستطيع أن أتصور  كيف يمكنهم متابعة المشوار.
الأصدقاء الحقيقيون نادراً ما يفهموننا خطأ.  وإن فعلوا فلوقت قصير فقط. إن عبثَ أحدهم بثقتك وولائك واصلْ منح محبتك وفهمك له كما لو لم يحدث شيء تماماً مثلما تأمل بالحصول على الفهم والمحبة من الآخرين.
ولكن.. إن استمر ذلك الشخص في تصرفه الدال على الإحتقار والحقد نحوك، وظل يصفع يد المودة الممدودة نحوه، فمن الأفضل عندها أن تسحب يدك إلى أن يصحح سلوكه ويصبح أهلاً لأن يستحق شرف الصداقة.
الصداقة يجب أن تبدأ في البيت. فإن وجدت في أسرتك واحداً منسجماً معك بصورة خاصة، اعمل على تنمية المودة مع ذلك القريب أولا.  بعد ذلك إن شعرت بالإنجذاب نحو شخص من بين معارفك ذي مُثل مشابهة فحاول تعزيز تلك الصداقة.
يجب القضاء على كل الرغبات وليدة الأنانية والمشاعر الجنسية بين الأصدقاء.  ويجب توطيد العلاقات الودية مع الطيبين من الناس. كلما تأملت كلما تعرفت على أصدقاء الماضي. فالتأمل يوقظ ذكريات هاجعة لأصدقاء عرفتهم وأحببتهم في ماضيك البعيد.
هناك الكثير من الأشخاص الذين أبصرتهم بالرؤيا الروحية أولا ثم التقيت بهم فيما بعد.
الصداقة هي قوة كونية عظيمة. فعندما تكون رغبتك في الصداقة قوية، وإن وُجد شخص مجهول متناغم معك روحياً حتى في القطب الجنوبي فإن مغناطيسية الصداقة ستقربكما بكيفية ما من بعضكما.
الأنانية وحدها لها القدرة على إتلاف مغناطيس الإئتلاف في نفوسنا.
من يفكر بنفسه كل حين يقوّض دعائم الصداقة ويعبث بمقدساتها.
هؤلاء الأشخاص لا قدرة لهم على اجتذاب الأصدقاء لأنهم عاجزون عن التوسع وتقبّل خيرات الحياة.  لقد وهبك الله أسرة، أيها الصديق، لعلك تتعلم أولا كيف تحب الآخرين ثم تمنح نفس المحبة للجميع.
إن أحبابنا يؤخذون منا بالموت وظروف أخرى لعلنا نتعلم عدم محبة الأشخاص في العلاقات البشرية وحسب، بل محبة الحب ذاته.. ذلك الحب الذي هو الله الموجود خلف كل الأقنعة البشرية.  ومع امتلاك الحب الإلهي سنتمكن من محبة الجميع كمظاهر متعددة لسيد الأكوان.
الصداقة معناها استثمار محبتنا بعيداً عن الاعتبارات الذاتية.  في الحياة الزوجية هناك الإرغام الجنسي، وفي الحياة العائلية هناك غرائز وراثية. أما في الصداقة فلا يوجد إلزام أو إجبار ولا مكان للإرغام أو الإكراه والاضطرار من أي نوع كان، بل مودة تلقائية نابعة من القلب وغير مقيدة بشروط باستثناء شرط الوفاء الذي لا دوام لصداقة بدونه. وهذا الشرط هو من مسؤولية الصديقين لأن يداً واحدة لا تصفق!
فلنمنح محبتنا للجميع.  ولنبتهل كي نلتقي بأصدقائنا من الماضي، ولنرسّخ صداقتنا معهم علنا نتفهم أخيراً صداقة الله ونستحقها.
وما لم نحب عيال الله من خلال روح الإلفة والوئام، فلن نستطيع الإحساس بمحبة رب الأنام.
لا أعرف غريباً. ويا لها من سعادة وفرح عظيم.
وحتى من يعتبر نفسه عدوي ليس بوسعه أن يجعلني أشعر  بأنني أكرهه.
عندما تأتي تلك اليقظة تحس بمحبة الجميع.


الحب الذي تشعر به نحو مخلوقات الله لا يموت أبد الدهر.. لكنه ينمو ويتعاظم.. إلى أن تلمس في محبة الأصدقاء الحب الإلهي النابع من قلب الله في السماء..
وعليكم السلام أصدقاءنا الأعزاء.

 تفضلوا بزيارة موقع سويدا يوغا وصفحة المعلم برمهنسا يوغانندا على فيس بوك


 لقراءة المزيد رجاء الضغط على Older Posts أو  Newer Posts
في أسفل الصفحة










No comments:

Post a Comment