Sunday, July 3, 2011

البهاغافاد غيتا


جواهر الحكمة الذهبية: أقوال السيد كريشنا
البهاغافاد غيتا
----------
ترجمة: محمود عباس مسعود

السلام عليكم
لقد شرعت بترجمة هذه الأقوال الخالدة للسيد العظيم كريشنا Krishna الواردة في كتاب البهاغافاد غيتا Bhagavad-Gita الذي يُعتبر من أعظم الأسفار الروحية في العالم، والذي يعود تاريخه إلى قرابة الثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
لم أتقيد بالترجمة الحرفية ولم أذكر الأسماء السنسكريتية العديدة الواردة في متن النصوص؛ كما أنني لم أنقل الأقوال المتعلقة بالطقوس والنذور ومفاهيم واعتبارات أخرى لا تنطبق على بعض البيئات والثقافات وأنماط التفكير. لكنني اخترت فقط تلك الحِكم والإرشادات المناسبة لكل العصور والثقافات والأجيال. كما أدخلت بعض عبارات تفسيرية لاستخلاص المعاني الجوهرية بحسب ما خطرت لي تلك المعاني وبحسب ما فهمته من المقصود.
فيما يخص اليوغا التي يذكرها كريشنا في أكثر من مكان، فهي بحسب معرفتي ليست الهاثا يوغا بل الكريا يوغا التي تساعد على التحكم بقوة الحياة وبالتالي على التسريع من تقدم المريد الجاد وتحريره من كل العوائق التي تعترض طريقه الروحي. 

الأقــــــــــــــوال 

الأقوياء الأشداء لا يتطرق الضعف إلى نفوسهم ولا تخور عزائمهم، لأن التخاذل لا يمنحهم نصراً على الأرض ولا يوصلهم إلى السماء.
فلا تسمح – أيها المريد – للوهن بالسيطرة عليك لأن ذلك الشعور لا يليق بالشجعان ذوي النفوس الكبيرة. اطرد القنوط والإحباط المَقيت من فكرك وانهض بعزيمة كاللهب الحارق الذي يلتهم كل ما يعترض سبيله.
الحكيم لا يحزن على المفارقين ولا على الأحياء، لأن الموت والحياة إلى زوال.
لم يأتِ زمنٌ لم يشهد وجودنا.. ولن ينعدم كياننا أبداً من الوجود. فنحن جميعاً موجودون طوال الأبد.
كما تمرّ النفس الحية أو الروح، التي تسكن الجسد الفاني، بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة، هكذا تنتقل أيضاً إلى جسد جديد. تلك حقيقة يعرفها الراسخون في الحكمة ولا تراودهم الشكوك حيالها.
من عالم الحس تبزغ الحرارة والبرودة، اللذة والألم. هذه الإحساسات تأتي وتمضي.. إنها مؤقتة مآلها التلاشي والاضمحلال. فترفعي عنها جميعاً أيتها النفس القوية.
من لا تقوى هذه المدركات الحسية على تضليله هو حكيم، بمنأى عن قبضة اللذة والألم، لا تهزه الحوادث ولا تقلقه الأحداث.. ولهذا يستحق حياة الخلود.
اللا حقيقي لا وجود له، والحقيقي ليس له انعدام. هذه الحقيقة يدركها العارفون الذين أبصروا الحق بعين اليقين.
جوهر النفس لا يمكن تدميره.. ولا لأحد القدرة على إبادة الروح الدائمة الباقية.
هذه الروح خارجة عن نطاق الزمن، تسكن الأجسام الفانية بالرغم من عدم ديمومة تلك الأجساد، وتبقى مع ذلك خالدة وغير خاضعة لأي قياس.
هذا الجوهر الإلهي لا ولادة له ولا يمسه الموت. هو كامن في قلب الأزل وباقٍ أبد الآبدين. لم يولد وغير خاضع للفناء.
مثلما يخلع المرء ثوباً عتيقاً بالياً ويلبس ثوباً جديداً، هكذا تطرح الروحُ ثوبها الجسدي وتنطلق بحثاً عن رداء جسدي جديد.
لا السلاح يؤذي الروح ولا النار تحرقها.. لا الماء يبللها ولا الريح تجففها.
هي ثابتة دائمة الحضور وغير متقلبة.. لطيفة لا يمزقها السلاح ولا يحرقها اللهب ولا يغرقها الماء ولا تلفحها الريح .
هي محتجبة عن عيون البشر، ما وراء الفكر.. ما وراء التقلبات.. راسخة لا يتطرق إليها التغيير والتبديل. فاعرف هذه الحقيقة وتحرر من قبضة الأحزان.
كل من يولد لا بد أن يموت ومن الموت تبزغ الحياة. تلك حقيقة مؤكدة ينبغي إدراكها.
الكائنات تكون محتجبة قبل ظهورها بالولادة وتعود ثانية إلى طور الاحتجاب بعد الموت. بيد أنها تبدو مرئية بين الإحتجابين إبان وجودها الأرضي، فهل في هذا ما يبعث على الحزن؟
البعض يبصر الروح في رؤىً بالغة السموّ، والبعض يتحدث عن روائعها الفائقة. وهناك من يسمع عنها وعن عجائبها المذهلة مع أنه لا يسمعها ولا يعرفها.
الروح التي تقطن كل الكائنات هي خالدة بها جميعاً، فلا تحزن لموت ما لا يموت!
فكر بواجبك ولا تتردد. فما أسعد الذين يخوضون بجرأة وبسالة غمار معركة الحياة ويبلون فيها خير بلاء! حقاً أنها لفرصة تفضي إلى طمأنينة النفس والسعادة الأبدية.
أما انسحابُك من معركة الحياة الفاضلة فيعني التخلي عن الواجب والشرف وبالتالي الإندحار والإنحدار إلى هوة التخاذل والخذلان.
الناس سيتحدثون الآن ومستقبلاً عن انسحابك وتقاعسك. وفقدان السمعة الطيبة والشرف بالنسبة للرجل الشهم النبيل هما أشد وطأة عليه من الموت.
وسيقول عنك الشجعان أنك هربتَ من المعركة بدافع الخوف. والذين ينظرون إليك بإعجاب سيغيّرون رأيهم بك ويتحدثون عنك بازدراء واستخفاف.
وأعداؤك أيضاً سيصوّبون نحوك سهام احتقارهم ويصبّون إهانتهم عليكَ صبّا. وهل من عار أمرّ مذاقاً من هكذا هوان؟
إن متَّ في أداء واجبك والكفاح في معركة الحياة فنصيبك الجنة، وإن عشت فأمجاد الدنيا أمامك. فانهض إذاً وتأهب للكفاح.
حافظ على سلامك في اللذة والألم، في الربح والخسارة، في الإنتصار والإندحار. فإن شعرت بذلك السلام في ذاتك وخضت غمار المعركة معركة الحياة فلن تقترف عندئذ إثماً أو ترتكب خطأ.
ما قلته لك كان من وحي حكمة الأسفار، أما الآن فسأحدثك عن حكمة اليوغا.. الطريق المبارك إلى المملكة السماوية والتحرر من كل القيود.
ما من خطوة واحدة تذهب سدىً على هذا الطريق وما من مخاطر أو عقبات تحول دون وصول المخلصين.. وحتى القليل من الممارسة يساعد على التحرر من مخاوف كبرى.
من يمارس اليوغا وينتهجها طريقاً يُبقي عقله متوجهاً نحو الغاية العظمى التي ما بعدها غاية . أما الذي يعوزه التصميم فيظل عقله مشوشاً وأفكاره مشتتة مرتبكة إلى ما لا انتهاء.
هناك أناس لا يمتلكون رؤية واضحة ومع ذلك يكثرون من الكلام (يهرفون بما لا يعرفون!) يتشبثون بحرفية النصوص ويصرّون بمغالاة على أنها الأفضل ولا يوجد سواها.
نفوسهم مغلفة بالشهوات، ونعيمهم يكمن في تحقيق الرغبات الأنانية. يرفعون أدعية خاصة بتحصيل اللذة والقوة نظراً لامتلاكهم شهواتٍ كثيرة بحاجة إلى تحقيق. لكن ثمار تلك الشهوات هي العودة الإضطرارية إلى التجسد على هذه الأرض. هم يظنون أن عودتهم إلى التجسد هي مكافأة لهم على أعمالهم ومبرّاتهم، ويتباهون بتطبيقهم لممارسات شتى وطرق عديدة لتحقيق مآربهم وامتلاك القوى الخارقة.
محبو المتع وطالبو القوة يستمعون إلى هؤلاء ويعملون بمشورتهم لأنهم ضالون ولا يمتلكون أدنى رغبة للتوحد مع الواحد الأحد.
التوازن العقلي ليس من نصيب اللاهثين وراء تحقيق المتع الأنانية، الطامحين لامتلاك القوة بأي وسيلة، لأنهم موّزَّعو الفكر مشتتو الهدّف، ولذلك يعوزهم التصميم الكافي للبحث عن الجوهر الفرد والتناغم معه.
يجب أن يتحرر المريد من الثنائية ويتوحد مع الحق السرمدي ويندمج بالمطلق اللانهائي في الذات الكونية.
إن الأسفار الدينية بالنسبة للعارف بالله هي كصهريج ماء مقارنة بينابيع ثرّة منبجسة بغزارة ومتدفقة في كل اتجاه.
أقبل على عملك بكل صدق وهمة وإخلاص دون التقيد بنتيجة العمل. لا تعمل طمعاً بثمار العمل، ولا تكف عن أداء واجبك المنوط بك.
أنجز عملك بالسلام الذي تمنحه ممارسة اليوغا. تحرر من الرغبات الأنانية. حافظ على هدوئك وتوازنك سواء في النجاح أو الفشل، فاليوغا هي التوازن العقلي والسلام الذي لا يتغيّر أبدا.
الأعمال التي يتم إنجازها طمعاً بثمارها هي أدنى منزلة من العمل المُنجز بحكمة اليوغا. اطلب الخلاص بحكمة العقل. ما أتعس الذين يعملون طمعاً بمكافأة.
في هذه الحكمة يتخطى المريد ما هو حسن وما هو غير حسن. فاسعَ في طلب الحكمة واعلم أن اليوغا هي إنجاز العمل بحكمةٍ وحكمة ٌ في إنجاز العمل.
الحكماء ذوو الرؤى الصادقة يزهدون بثمار أعمالهم، وإذ يتحررون من الولادة يبلغون دار الخلود والإفلات من القيود.
إن من توحّد عقله مع الذات الإلهية يحيا بأمن وطمأنينة في تأمل مقدس، وتلك هي غاية اليوغا.
الحكماء إذ يترفعون عن ثمار العمل ويتحررون من قيود هذا العالم، يبلغون حالة الإتحاد مع الذات العليا المباركة، يتخلصون من الشقاء ويبلغون الخلاص النهائي أو الإنعتاق الأتمّ.
عندما تتخطى أوهام الحياة لن تتأثر بعدها بما تسمعه من الناس أو بما يقوله عنك الناس.
عندما ينأى الإنسان بنفسه عن الرغبات المتسربة إلى عقله، ويغتبط بالذات الإلهية في أعماق روحه يمكن القول إذ ذاك أنه ذو عقل ثابت.
من لا تستطيع الأحزان أن تهز عقله أو تشوش فكره.. المتعفف عن اللذات من حوله.. المتحرر من التعلقات والمخاوف والغضب.. هو حكيم راجح العقل.
هذا الإنسان الراسخ في الحكمة غير مقيّد بشيء.. لا يستخفه فرحٌ لحظٍ سعيد ولا يعكره حزنٌ لسوءِ طالع.
هذا الإنسان قادرٌ على لجم شهواته وسحب حواسه متى شاء تماماً مثلما تسحب السلحفاة أطرافها إلى داخل ترسها الواقي.
المشتهيات الحسية تفقد قوّتها عند من لا يواصل إمدادها بالغذاء الحسي، لكن حضورها القوي لا يولـّي حتى يشرق النور الإلهي على كيان المريد.
الحواس الناشزة غير المهذبة تهبّ كالإعصار على العقل وتخضه بعنف، حتى لو كان صاحبه حكيماً يسعى إلى بلوغ الكمال.
إنما على المريد أن يلجم حواسه متذكراً أنه سيدها، وأن يجلس متأملاً بشوق على الكائن الأسمى، وسيجد الراحة بعون القدير. حقاً أن من أفلح في السيطرة على حواسه هو صاحب النفس المطمئنة ويمتلك حكمة عميقة.
كلما داوم المرء التفكير بالأمور الحسية كلما ازداد شغفاً بها. التعلق يولـّد الرغبات والرغبات تولـّد الجشع، والجشع والرغبة الجامحة في التملك يقودان إلى الغضب.
الغضّب يعمي البصيرة، وعمى البصيرة يـُفقد المرء ذاكرته فيغفل واجباته. فقدان الذاكرة يؤدي إلى تدمير القدرة على التفكير وتدبّر الأمور، وبالتالي إلى الهلاك.
أما النفس القادرة على التجول بين الحواس وإبقائها منسجمة مع المقاصد العليا، بمنأى عن الهيام والإحجام، تتنعم بغبطة ذاتية في سكينة الروح.
في تلك السكينة المباركة تتحرر النفس من أحزانها وتعثر على السلام الروحي في أعماقها، وترسخ رسوخاً دائماً في الذات والمدركات العليا.
أما الذين يعيشون دون تناغم باطني فيعوزهم التمييز ولا يمتلكون حكمة. وبدون ذلك التناغم لا يمكنهم التأمل على الذات، وبدون التأمل يصعب تحصيل السلام، وهل يمكنهم تذوّق غبطة الروح دون سلام؟
عندما تعتقل الحواسُ الناشزة عقلَ المرء وتقيّده ينطفئ منه نور الحكمة، فتختلط عليه الأمور وتصبح أفكاره مشوشة مشتتة، تتقاذفها الأهواءُ كما تتقاذف الأنواءُ السفينة في عرض البحر.
لكن من يتمكن من فصل حواسه عن مشتهياتها تهدأ ثائرة عقله فيشرق في كيانه نور الحكمة وينعم بسلام الروح.
الظلام يغلف نفوس غير المستنيرين في حين يسطع نور البصيرة في عقل من يسود نفسه ويضبط حواسه. إن ما يعتبره الناس ليلاً مظلماً هو نور ساطع لذي العقل المتنور، وما يعتبرونه نهاراً مشرقاً هو ظلام دامس للحكيم العارف بالله.
مثلما تصبّ مياه الأنهار في البحر المحيط فلا تـُحدث به طوفاناً، هكذا يشعر الحكيمُ بالرغباتِ ويستوعبها دون أن تغمر شواطئ عقله أو تطغى على كيانه، لأنه آمن مطمئن في حصن سلامه المنيع.
من ينجز واجباته دون تعلـق أو تحرّق، ولا يسمح لمشتهياته بإملاء إرادتها عليه.. من لا يتيه غروراً أو يفاخر الآخرين بممتلكاته وإنجازاته يَبلغ حالة متقدمة من السلام الفائق ويتذوق غبطة الروح.
تلك هي حالة التوحّد مع الروح السرمدي. من يبلغ تلك الحالة تتبدد أوهامه فلا يضل السبيل بعدها. وحتى في آخر لحظات عمره على الأرض يمكن للمرء أن يبلغ أسمى حالات الوعي ويعثر على سلامه في الله.
هناك طريقان في هذا العالم لبلوغ الكمال: طريق الحكمة وطريق اليوغا (العمل المتجرد عن الغايات أو النظر إلى مكافآت.)
لا يمكن التحرر من ضرورة أداء الواجب بالإمتناع عن أدائه، ولا يمكن بلوغ الكمال الأعظم بالزهد في الدنيا وعدم الإضطلاع بالمهام.
مستحيل أن يكفّ الإنسان ولو للحظة واحدة عن العمل. فالقوى الكامنة في طبيعته تستحثه للعمل وتدفعه إليه دفعا.
من يمتنع عن الأفعال وفي نفس الوقت يداوم التفكير في قلبه بالملذات التي توفرها تلك الأفعال هو إنسان واهمٌ وسائرٌ بتقلقل وتعثر على الطريق.
أما من يتحكم عقلـُه بمشتهياته وتعمل قواهُ بانسجام مع مبادئِه، فهو إنسان عظيم لأنه ينجز كل أعماله إكراماً للواجب وتقدمة خالصة لله.
إنجاز العمل خير من الإمتناع عن أدائه، فقم بواجبك وانجز عملك في الحياة. العمل ضرورة حيوية ولولاه لما أمكن للجسد البقاء على قيد الحياة.
العالـَم مقيَّد بالأعمال الأنانية. فلتكن دوافعك نظيفة وأعمالك نقية ومتحررة من الرغبات المقيّدة.
من عثر على الفرح الروحي في باطنه يتمتع بالإكتفاء الذاتي، يتنعم بالسلام ويحيا حياة القناعة والرضى.
الناس يتطلعون إلى أفاضل الناس، يقلدون أعمالهم ويقتدون بهم. والدرب الذي يسلكه العظماء يسترشد بمعالمه الآخرون ويسيرون بثقة وإيمان عليه.
كما يعمل غير المستنيرين بهمة وحماسة، مقيَّدين بأعمالهم الأنانية، هكذا فليعمل الحكماء ولكن بإيثار وتجرّد لصالح الآخرين ولمنفعة البشرية.
يجب أن لا يُقلق الحكيم أفكار الجهلاء المنهمكين في مساعيهم الأنانية. بدلاً من ذلك ليبيّن لهم بصدق وإخلاص البهجة التي يمكن تحصيلها جرّاء القيام بالعمل الطيب.
الأعمال تتم نتيجة لتفاعل قوى الطبيعة بعضها مع بعض. لكن المنهمك بالأوهام الذاتية يظن أنه هو نفسه من يفعل.
الواقعون تحت تأثير الوهم الذي تـُحْدثه قوى الطبيعة يقيّدون أنفسهم بمفاعيل تلك القوى. لا ينبغي للحكيم الذي يرى الصورة الكبرى أن يزعج أولئك الذين لا يرون نفس الصورة كما يراها هو.
كرّس لله أعمالك ودَع عقلك يجد راحة في الحضور الإلهي. تحرّر من الآمال العقيمة والأفعال الأنانية، وقم بواجبك الموكل إليك براحة بال وسلام باطني.
إن الذين يتبعون طريق الحق والهداية ويمتلكون الإيمان والإرادة الطيبة، يعثرون على حريتهم في التوجه الصحيح والعمل النظيف.
أما الذين لا يتبعون طريق الحق والهداية، ولا يضمرون الخير للغير فهم عميان لا يبصرون بنور الحكمة: أفكارهم مبلبلة ويعانون الحيرة والضياع.
الكراهية والشهوة لهما جذور في طبيعة الإنسان السفلية. يجب أن لا يقع المرء تحت تأثيرهما لأنهما عدوّان لدودان لسعادته وسلامه.
قم بعملك حتى ولو كان متواضعاً بدل القيام بعمل غيرك حتى ولو كان جليلاً. الموت في تأدية الإنسان لواجبه هو حياة والموت أثناء القيام بعمل شخص آخر هو فناء.
الشهوة والغضب يدفعان الإنسان دفعاً لارتكاب الخطأ رغماً عنه. إنهما ألد أعداء النفس وقدرتهما على التدمير كبيرة.
شمس العرفان تحجبها وتكسفها غيوم الرغبة العدو الدائم للحكمة والحكماء. لتلك الرغبة صور وأشكال لا حصر لها، وهي كالنار التي لا تشبع ولا ترتوي.
الرغبة تعشش في حواس المرء وعقله وإدراكه فتعمي بصيرة النفس وتشوش رؤيتها، تماماً مثلما تعتّم مرآة الحكمة وتفقدها صفاءها.
فلتكن حواسك منضبطة ومنسجمة مع مقاصدك النبيلة، ولتقضِ على الرغبة الآثمة المدمّرة للرؤية وللحكمة معاً.
يقولون أن قوة الحواس عظيمة. لكن العقل أعظم من الحواس. والإدراك أعظم من العقل، والروح الذي يسكن الإنسان وكل الكائنات أعظم من الإدراك.
تعرف على ذلك الروح الذي يفوق الإدراك، ودع سلامه يهبك سلاماً. كن محارباً نبيلاً واقتل الرغبة العدو العاتي للنفس.
من يجد راحة في عمله وفي نفس الوقت يدرك أن الراحة هي ضرب من العمل يبصر النور ويجد سلاماً في كل ما يفعله.
من يقوم بعمله بمنأى عن الرغبات الناشزة والاعتبارات الذاتية.. ومن طهّرت نار الحكمة أعماله فأصبحت نقية، يُعتبر حكيماً في نظر مبصري الحقيقة عارفي الحق.
ومهما يكن العمل الذي يقوم به فإنه يفعله بنفس رضية. لا يتوقع شيئاً، لا يتكل على شيء، ويظل قلبه طافحاً بالفرح.
إنه سيد ذاته. لا يعلل نفسه بالآمال العقيمة، بل ينجز أعماله مرضاة لله فيتحرر من الآثام ومن الثنائية ويقنع بما يجود الله عليه.
لا يعرف الحسد. لا تقيده أعماله ولا يتأثر بالنجاح أو الفشل.
لقد بلغ مرحلة الإنعتاق فتحرر من كل القيود ووجد عقله سلاماً في الحكمة. عمله مبرورٌ ومقبولٌ في عين الرب.
من يحفظ الله في سرّه ويعاينه في كل ما يفعله، يذهب إلى الله لأن كيانه بأسره مكرّسٌ له.
عندما تمتلك الحكمة لن ترتبك أبداً لأنك سترى كل الأشياء بعين قلبك وسترى قلبك في الله.
حتى لو كنت أخطى الخطاة وأكبر الآثمين، يبقى مع ذلك بمقدورك اجتياز بحر الشر بقارب الحكمة.
كما تلتهم النارُ الحطبَ وتحيله إلى رماد، هكذا تـُحيل الحكمة السرمدية أعمالك إلى رماد وتخلصك من نتائجها.
ما من شيء كالحكمة القادرة على تنقيتنا إبان وجودنا على هذه الأرض. من يحيا آمناً مطمئناً في ذاته يدرك هذه الحقيقة.
من يؤمن بالحكمة ويجلـّها يعش بانسجام باطني، ومن يعثر على الحكمة يعثر أيضاً على السلام الأعظم.
أما الذي لا يمتلك حكمة أو إيماناً، تراود نفسه الشكوك ومآله هو الضياع. الفرح الباطني ليس من نصيب المرتابين، لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.
من طهّر أعماله بممارسة اليوغا وقضى على شكوكه بالحكمة، يتحرر من قيود العمل الأناني المكبِّلة.
استأصل من قلبك الشك وليد الجهل واقتله بسيف الحكمة. مارس بإخلاص يوغا التوحد مع الذات وانعم بالراحة والحرية والسلام.
الترك الباطني والعمل النظيف كلاهما طريق إلى العلي الأعلى، إنما أعظم من الإثنين هو التركيز الكلي على الله بواسطة تأمل اليوغا.
إعلم أن صاحب الترك الحقيقي هو الذي لا يشتهي شيئاً ولا يكره شيئاً، والمترفع عن هذين النقيضين يعثر عما قريب على حريته.
الجاهلون وليس الحكماء يعتبرون أن طريق الحكمة وطريق اليوغا منفصلان، ولكن من يكرّس جهوده بكل إخلاص لأحد الطريقين يبلغ غاية الإثنين معاً.
القيام بالأعمال الخيّرة هو حكمة، وما يبلغه الحكيم يحققه أيضاً فاعل الخير.
الترك الباطني يَصعُب تحقيقه بدون يوغا العمل (عدم التعلق بنتائج الأعمال). ومن يمارس اليوغا (كريا يوغا أو يوغا الروح) يقترب من التوحد مع الله.
ما من فعل يلوّث صاحب النوايا السليمة والدوافع النقية، المنسجم مع روحه، المتحكم بقواه، الضابط لحياته، والمتصلة نفسه بنفوس الجميع.
ذو التوافق الباطني إذ يبصر نور الحق يقول "لست أنا من يقوم بالعمل"، لأنه في كل ما يراه أو يسمعه، وما يشمه أو يلمسه، وأثناء تناوله الطعام وسيره ونومه وتنفسه وكلامه ونشاطه وراحته، وحتى عندما يفتح عينيه ويغمضهما، يؤكد لنفسه قائلا "خـَدَم نفسي هم من يقومون بكل هذه الأفعال."
قدّم كل أعمالك لله، انفض عنك غبار الأنانية واعمل بكل إخلاص. وعندها لن يلوّثك إثم أو خطأ، تماماً كما لا يلوّث الماء أوراق زهرة اللوتس.
اليوغي يعمل لتطهير نفسه. يهجر كل التعلقات الأنانية فيتحرر. وإن عَمِلَ يدرك أن من يقوم بالعمل هو جسده وحواسه وعقله وإدراكه.
هذا المتناغم مع ذاته يرفع إلى الله كل أعماله وثمارها فيحرز سلاماً غزيرا. أما غير المتناغم مع ذاته فتسوقه رغباته، يبقى متلهفاً لنتائج عمله ومكبلاً بقيود كثيرة.
من يضبط نفسه ويحتفظ بدوافعه نقية نظيفة يحيا بأمن وطمأنينة في حصن جسمه ذي التسعة أبواب. لا يقوم بأعمال أنانية ولا يطلب من أحد القيام بمثل تلك الأعمال.
إن الذين تحوَّل جهلهم إلى معرفة بإشراقة نور الروح الباطني تبزغ في وعيهم شمس الحكمة ساطعة فيغتبطون بمعاينة وجه الله.
وإذ يبتهجون بإشراقة الرؤية المباركة يداومون التفكير بالله، ونتيجة لذلك يتوحدون معه، يبلغون غايتهم العظمى وينتهي مطافهم وتطوافهم بمستقر الحضرة الربانية. أجل، يبلغون ذلك المكان الذي لا عودة منه بعدها لأن حكمتهم تكون قد طهّرت نفوسهم من كل الشوائب وغسلتها من كل الآثام.
وإذ يغمرهم الحب الكوني تتساوى نظرتهم لكل الناس والمخلوقات دون استثناء.
ذوو الأفكار الهادئة المتزنة يكسبون نصراً في هذه الحياة ويتوحدون في باطنهم مع بارئهم. تتلاشى أوهامهم وتشرق بصيرتهم بنور الهداية. لا تقلقهم لذة ولا يكدرهم ألم.
هم غير مقيّدين بقيود العالم، بل يتلذذون بفرح عظيم. وإذ تتوحد نفوسهم مع الحق يبلغون ذروة السعادة الباطنية التي تعصى على الوصف.
مسرّات الدنيا تحمل في داخلها بذور الحزن والإحباط والألم. إنها تأتي وتمضي فهي إلى زوال. الحكيم يعرف هذه الحقيقة فلا يطلب لذته في تلك المباهج العابرة.
من يصمد أثناء وجوده الأرضي لعواصف الشهوات والغضب فلا تعبث بسلامه ولا تطغى على عقله هو يوغي صادق يتنعم بفرح الروح.
يمتلك غبطة باطنية ومسرّة روحية مثلما يمتلك ويعاين النور الباطني في ذاته. ذلك اليوغي يبلغ حالة الإتحاد مع الكائن الأقدس هنا على الأرض، ولدى مغادرته هذه الدنيا يذهب تواً إلى الله حيث الأمجاد العليا في الإنتظار.
القديسون المقدَّسون يبلغون حالة الإتحاد في المطلق فتـُمحى ذنوبهم وتتلاشى شكوكهم وتبتهج نفوسهم ويفرحون لتوفيق الجميع ويتمنون لهم الخير كما لأنفسهم.
يبتهجون لأن سلام الله معهم وبركاته عليهم، ولأنهم كسروا قيد الرغبة والغضب وعرفوا ذاتهم.
عندما يغلق حكيم السكون أبواب روحه ويحصر انتباهه في الجبهة ما بين الحاجبين، يعمل على إبقاء الشهيق والزفير هادئين متعادلين، وعلى إبقاء حياته وعقله ومدركاته في تناغم وانسجام، فتفارقه الرغبة ومعها الخوف والغضب، ويبلغ حالة التحرر التام.
ذلك الحكيم يعرف الله رب العوالم والأكوان، مُحب العباد الذي يتقبّل منهم أعمالهم المرفوعة إليه إكراماً له وحباً به.
الحكيم هو من لا يعمل طمعاً بمنفعة مادية بل يقوم بواجبه إكراماً للواجب.
الحكيم في سعيه للوصول إلى قمة اليوغا يتبع طريق العمل، وعندما يبلغ القمة يكون قد وصل إلى أرض السلام.
يبلغ تلك القمة المباركة بموافقة إرادته البشرية مع الإرادة السماوية. وعندما يتحرر من القيود الحسية يتحرر أيضاً من الأعمال المقيَّدة بالمستوى الأرضي.
فتشدّد وانهض وارتقِ بنفسك ملتمساً العون من الروح الإلهي. لا تسمح لنفسك بالهبوط إلى مستويات وضيعة، واعلم أن النفس صديق وعدوّ في آن.
النفسُ صديقُ من يضبط نفسَه ويتوجه إلى الله بقلبه، وعدو من يعوزه ضبط النفس ولا يحفظ الله في سره.
عندما تكون نفس الإنسان في سلام يتذوق هو أيضاً ذلك السلام وتكون نفسه على اتصال بمصدرها الإلهي تحت كل الظروف، فيحسّ بأن الله معه في كل الحالات والأحوال: في الحَرّ أو البرد، في اللذة أو الألم، وفي الإعتبار أو العار.
ذلك الإنسان سعيد لامتلاكه الحكمة والرؤية الصادقة ولكونه سيداً لحياته وأهوائه. وبفضل ذلك ترتقي نفسه ويرسخ في مستويات عُليا فيصبح الذهب والحجر عنده سيّان.
إن من بلغ مرتفعات الروح وامتلك السلام الباطني ينظر نظرة واحدة إلى القريب والغريب، إلى العدو والصديق. وإذ ينعم بسلام الروح تصبح نظرته متساوية لمحبيه ومبغضيه، للمنصفين بحقه والمجحفين.
فليعمل اليوغي على التأمل وإحراز السلام الروحي، في مكان هادئ، في سكون عميق. ليمسك بزمام فكره، قانعاً مطمئناً في ذاته دون التفكير بالملذات أو التحرق للمشتهيات.
ليجلس للتأمل في وضع مريح في مكان هادئ ونقي، وليمارس اليوغا لتطهير روحه. ليعمل على حفظ طاقاته العقلية وقواه البدنية في تناغم وانسجام، وليتفكر بالله في سكينة نفسه.
ليجلس بحيث يكون جسده ورأسه ورقبته في وضع معتدل ومريح دون حراك، وليحصر انتباهه الداخلي ما بين الحاجبين.
وإذ يغمر السلام روحه ويفارقه الخوف ليتأمل على الله بكل شوق وفرح.
وإلى اللقاء بعونه تعالى مع مزيد من جواهر الحكمة
والسلام عليكم ونعمة الله وبركاته.
لقراءة المزيد من الموضوعات رجاء النقر على Older Post أو Newer Post أسفل الصفحة

No comments:

Post a Comment