Friday, July 1, 2011

برمهنسا يوغانندا وطاغور


المعلم برمهنسا وطاغور



"لقد علمنا رابندرانات طاغور كي يكون غناؤنا طبيعياً وعفوياً كوسيلة للإعراب عن النفس، تماماً كالطيور المغردة."

جاءني هذا التفسير من بهولا نات، وهو فتى متقد الذكاء في الرابعة عشرة بمدرسة رانشي، بعد أن أثنيت ذات صباح على غنائه الرخيم. وبمناسبة أو بدون مناسبة كان الصبي يتدفق بالألحان كالجدول المتناسق النغم. وكان قد درس قبلا في مدرسة طاغور الشهيرة سانتيناكيتان التي تعني "مرفأ السلام" في بولبور.

وقلت لرفيقي: "لقد ترددت أناشيد رابندرانات على شفتي منذ بواكير الشباب. فالبنغاليون بأسرهم، حتى القرويون الأميون منهم، يستمتعون لدرجة كبيرة بأشعاره السامية."

وأنشدت مع بهولا بعض الأبيات لطاغور الذي وضع للألحان الموسيقية آلاف القصائد الهندية، بعضها من تأليفه وبعضها قديم.

وبعد أن انتهينا من الغناء قلت ضاحكاًً: "لقد التقيت برابندرانات فور حصوله على جائزة نوبل للآداب. ولقد شعرت برغبة ملحة لزيارته نظراً لإعجابي بجرأته غير الدبلوماسية في التعامل مع ناقديه."

واستفهم بهولا عن القصة بشوق، فقلت: "تناول علماءُ اللغة طاغورَ بالنقد المرير لأنه أدخل لوناً جديداً على الشعر البنغالي بمزجه العبارات العامية والكلاسيكية دون مراعاة للحدود اللغوية التي يعتز بها اللغويون. وتتضمن أشعاره حقائق فلسفية عميقة في عبارات وجدانية جذابة، دون التقيد بالصيغ الأدبية المتعارف عليها.

"وذات مرة وصف أحد النقاد من ذوي النفوذ رابندرانات – باستخفاف وازدراء – بأنه ’ شاعر الحَمام الذي باع هديله للمطابع بثمن زهيد.‘ لكن انتقام طاغور كان حاضراً! فعالم الأدب في الغرب قام بأسره بتأدية واجب الإكرام عند قدميه فور نقله إلى الإنكليزية كتابه (غيتانجالي: قرابين الغناء). حينذاك توجه بالقطار إلى سانتينيكتيان جمع غفير من العلماء، من بينهم ناقدوه السابقون، لتقديم التهاني.

"واستقبل رابندرانات زائريه بعد تأخر طويل متعمد، ثم أنصت لثنائهم المعسول في صمت وعدم اكتراث. أخيراً صوّب نحوهم أسلحة انتقادهم قائلا:

"أيها السادة، إن ورود التبجيل والتكريم العاطرة التي تقدمونها لي هنا ممزوجة بالروائح النتنة لازدرائكم السابق. فهل من صلة بين حصولي على جائزة نوبل وبين تقديركم المباغت هذا؟ فأنا ما زلت نفس الشاعر الذي أثار حفيظتكم عندما قدمت زهوري المتواضعة في مزار البنغال."

"ونشرت الصحف ملخصاً لتعنيف طاغور الجريء، وقد أعجبت بصراحة رجل لم ينخدع بالتملق والرياء."

"وقد قدّمني إلى رابندرانات في كلكتا سكرتيره المستر سي أف. أندروس(1) الذي كان يرتدي ببساطة الثياب البنغالية، وكان يشير بمودة إلى طاغور بأنه سيده الملائكي (غوروديفا)

"استقبلني رابندرانات استقبالا طيباً وكانت تحيط به هالة من الجاذبية والثقافة العريقة والمجاملة الصادقة. وأجاب طاغور على سؤالي عن منابع أدبه بأن إلهاماته الأساسية استوحاها من ملاحمنا الدينية ومن آثار الشاعر فيدياباتي الذي عاش في القرن الرابع عشر."

وإذ ألهمتني هذه التذكارات بدأت أنشد أغنية بنغالية قديمة كان قد صاغها طاغور في قالب جديد، مطلعها "أشعلْ.. أشعلْ مصباح حبك." وشاركني بهولا في الإنشاد البهيج ونحن نتجول في باحة المدرسة.

بعد حوالي السنتين من تأسيس مدرسة رانشي تلقيت دعوة من رابندرانات لزيارته في سانتينيكيتان لبحث مثلنا التربوية، فقبلت الدعوة بسرور وذهبت للقائه. وعندما وفدت إليه كان جالساً إلى مكتبه، وقد بدا لي نموذجاً رائعاً للرجولة الصادقة حسبما يتصورها أي رسام. فوجهه الوسيم ذو الملامح الدقيقة كان يشع نبلاً وكرامة ومحاطاً بإطار من شعر طويل ولحية مسترسلة وعينين كبيرتين لطيفتين، وتعلوه ابتسامة ملائكية. أما صوته الرخيم فكان كأنغام الناي يستهوي القلوب. وقد كان مديد القامة، قوياً وهادئاً في نفس الوقت، جمع في شخصه رقة المرأة وبراءة الطفل السعيد. ولا أظن أن أية فكرة مثالية أخرى عن شاعر ملهم يمكن أن تجد لها تعبيراً أصدق مما تجده في هذا المنشد الوجداني الرقيق.

وعلى الفور دخلت مع طاغور في دراسة مقارنة ومعمقة لمعهدينا التربويين اللذين تم إنشاؤهما على أسس غير تقليدية. وقد وجدنا العديد من أوجه الشبه بينهما، كالتعليم في الهواء الطلق والبساطة وتشجيع روح الإبداع في الصغار. ومع ذلك فقد أولى رابندرانات أهمية كبيرة لدراسة الأدب والشعر والتعبير عن الذات بالموسيقى والغناء، وهو ما لاحظته فعلا في بهولا. وكان فتيان السانتينيكيتان يمارسون فترات من الصمت، لكنهم لم يحصلوا على تدريبات خاصة في اليوغا.

وأنصت الشاعر بانتباه عميق لشرح تمارين يوغودا التي تشحن خلايا الجسم بالنشاط والحيوية، وإلى أسلوب التركيز اليوغي الذي يتم تلقينه لجميع تلاميذ رانشي.

وأطلعني طاغور على مراحل كفاحه التعليمي المبكر، وقال لي وهو يضحك: "لقد هربت من المدرسة بعد سن الخامسة." واستطعت أن أدرك على الفور كيف أن أحاسيسه الشعرية الرقيقة اصطدمت بجو المدرسة التأديبي الرهيب.

وأومأ الشاعر بفصاحة إلى مجموعة من الطلبة وهم يدرسون في الحديقة الغنّاء قائلا:

"لهذا السبب أسست معهد السانتينيكيتان تحت ظلال الأشجار وروعة السماء. إن الطفل يشعر بأنه في بيئته الطبيعية بين الأزهار والطيور المغردة حتى يتمكن من الإعراب عن الثروة الباطنية لمواهبه الذاتية. والعلم الحقيقي لا يمكن ضخه أو حشوه من مصادر خارجية، بل ينبغي للعلم أن يكون عوناً على الكشف عن كنوز الحكمة اللانهائية الكامنة في أعماق النفس البشرية." (2)

وافقته الرأي وأضفت قائلا: "النزعات المثالية للأطفال وحبهم للأبطال والبطولات تموت سغباً في المدارس العادية لاقتصارها على غذاء قوامه الإحصائيات والأحداث والحقب التاريخية."

وتحدث الشاعر بمودة عن والده ديفندرانات الذي ألهمه الشروع في السانتينيكيتان. قال: "لقد وهبني والدي هذه البقعة الخصبة التي كان قد شيّد فيها معبداً ومنزلا للضيوف. وقد بدأت تجربتي التعليمية هنا في سنة 1901 بعشرة أولاد فقط. والثمانية آلاف جنيه التي جاءتني مع جائزة نوبل أنفقتها في صيانة المدرسة."

وطاغور الأكبر (ديفندرانات) الذي اشتهر في كل مكان بلقب مهاريشي (الحكيم الأكبر) كان رجلا جديراً بالإكبار والاعتبار بحسب ما توحي به قصة حياته. فقد قضى سنتين من شبابه في التأمل في خلوات الهملايا. وبالمثل كان والده دواركانات مشهوراً في سائر البنغال بمبرّاته العامة السخية. ومن هذا البستان الطيب برزت أسرة من النابغين. فلم يكن رابندرانات وحده هو الذي تميز بالتعبير المبدع، بل أقاربه أيضاً كانوا يشاركونه الإبداع. ويعتبر ابنا عمه جوجونندرا و أبانندرا من بين الفنانين المتميزين(3) في الهند. وكذلك كان دويجندرا شقيق رابندرانات فيلسوفاً بعيد النظر تحبه حتى الطيور وحيوانات الغابة.

ودعاني رابندرانات لقضاء الليلة في منزل الضيوف. ويا له من منظر رائع في المساء عندما جلس الشاعر مع مجموعة من الطلاب في باحة المنزل! وعاد الزمن إلى الوراء فبدا لي المشهد كصومعة قديمة وبدا المترنم طاغور محاطاً بمريديه وقد غمرهم جو من البهجة والحب المقدس. وقد كان طاغور يحوك ويحْبك كل رباط ودي بخيوط التناغم والوئام. يا له من زهرة نادرة من الشعر الروحي الأصيل تفتحت في روضة الله واجتذبت إليها الآخرين بحسنها وأريجها الطبيعيين!

وبصوته العذب قرأ لنا رابندرانات بعضاً من أشعاره الحلوة الحديثة التأليف. ومعظم أناشيده ورواياته التي ألفها لإدخال البهجة والسرور على قلوب تلاميذه تم وضعها في سانتينيكيتان. وتتجلى روعة أشعاره بالنسبة لي في الإشارة إلى الله في كل بيت تقريباً بالرغم من عدم ذكر الاسم المقدس. فهو مثلا يقول:

"عندما أنتشي بالغناء أنسى نفسي وأدعوك صديقي يا من أنت سيدي!"

وبعد الغداء في اليوم التالي ودّعت الشاعر على مضض. ويسعدني أن مدرسته الصغيرة قد نمت وتطورت إلى أن أصبحت الآن جامعة فيزفا بهاراتي الدولية(4) حيث يجد فيها الطلاب من سائر البلدان بيئة مثالية.

حيث يتحرر العقل من المخاوف ويرتفع الرأس عالياً،

وحيث المعرفة حرة طليقة،

والعالم لم تحوله الجدران المحلية الضيقة إلى أجزاء مفككة،

وحيث تنبعث الكلمات من أعماق الحق،

وتمد الجهود المضنية أذرعها نحو الكمال،

وحيث الينبوع النقي للعقل لم يضل سبيله في الصحاري الرملية الموحشة للعادات الميتة،

وحيث يتقدم إلى الأمام في فكر وعمل دائمي الاتساع،

لتستيقظ بلادي في سماء تلك الحرية يا أبتاه(5)

رابندرانات طاغور

المصدر: مذكرات يوغي – السيرة الذاتية

بقلم برمهنسا يوغانندا

ترجمة حديثة منقحة: محمود عباس مسعود

الحواشي:

(1) تبجل الهند المستر أندروس الكاتب والمؤلف الإنكليزي والصديق الحميم للمهاتما غاندي بسبب خدماته العديدة لبلده الثاني (الهند).

(2) "النفس التي تعددت ولادتها، أو التي مثلما يقول الهنود: اجتازت طريق الولادات العديدة. . . لا يوجد شيء لم تعرفه، ولا عجب أن تتذكر. . . ما عرفته من قبل. . . لأن الاستقصاء والتعلم ليسا سوى تذكّر وحسب." أمرسون في Representative Men

(3) عكف رابندرانات أيضاً وهو في الستين من عمره على دراسة جادة للرسم، وعرضت لوحات له عن المستقبلية منذ بضع سنوات في عواصم أوروبية وفي نيويورك.

(4) ومع أن الشاعر المحبوب توفي في سنة 1941 لكن معهده لا يزال مزدهرا. وفي شهر ينار كانون ثاني من سنة 1950 قام فريق مكون من 65 شخصاً بين معلم وتلميذ من سانتينيكيتان بزيارة لمدرسة رانشي استغرقت عشرة أيام. وترأس الفريق سري أس أن. غوشال رئيس جامعة فيزفا بهاراتي. وقد ابتهج الضيوف لقيام طلاب رانشي بإنشاد (بوجاريني) من روائع طاغور.

(5) عن كتاب غيتانجالي (ماكميلان وشركاه). وهناك دراسة وافية للشاعر في كتاب فلسفة رابندرانات طاغور The Philosophy of Rabindranath Tagore تأليف العالم الهندي الذائع الصيت السر أس. رادهاكريشنان (ماكميلان 1918).

مزيد من تعاليم المعلم

برمهنسا يوغانندا Paramahansa Yogananda

على الرابط التالي:

www.swaidayoga.com

لقراءة المزيد من الموضوعات رجاء النقر على Older Post أو Newer Post أسفل الصفحة

No comments:

Post a Comment